يقترب لبنان من الذكرى السنوية الأولى لانطلاق معركته مع وباء كورونا في الواحد والعشرين من فبراير/ شباط 2020، تاريخ تسجيل الإصابة الأولى بالفيروس. في هذا العام، غيّر الواقع الوبائي حياة الناس، وبالدرجة الأولى أفراد الجسم التمريضي الذين ارتدوا بزّات القتال وتقدّموا الصفوف، غير آبهين بالمخاطر التي حتّمت عليهم تغيير نمط يوميّاتهم وسلوكياتهم. هم رفعوا شعار: اعتزلنا الحياة الاجتماعية... سنعود بعد زوال الوباء.
في مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت، وهو المستشفى الأوّل الذي راح يستقبل المصابين بمرض كوفيد-19 الذي يتسبب فيه فيروس كورونا، وبدأ حربه في مواجهة الوباء وحيداً، ممرّضاته وممرضوه وجدوا أنفسهم فجأة أمام مهمة استثنائية وغير مسبوقة بخطورتها، مع انعكاسات نفسية أكثر منها جسدية. وكان التحدّي في البداية كبيراً وصعباً، مع عدم توفّر أيّ علاج، لكنّ رسالتهم الإنسانية والأخلاقية والمهنية دفعتهم إلى خوضه على الرغم من القلق والخوف اللذَين انتاباهم.
ميساء كركي ممرضة مجازة في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، تخبر "العربي الجديد" أنّ "لا أحد في ذلك الوقت كان على معرفة كافية بالفيروس، لا الطاقم الطبي ولا التمريضي ولا المرضى. فدخلنا المعركة وقبلنا التحدّي على الرغم من علمنا أنّنا نتعامل مع فيروس جديد كان لا يزال غامضاً بتفاصيله. في ذلك الحين، كثيرون المرضى الذين كانوا يدخلون المستشفى منهارين نفسياً، خائفين من وباء لا يعرفون كيف أصيبوا به أصلاً وغاضبين من عزلهم وتركهم بعيدين عن أهلهم. من هنا، كانت أهمية تأمين وسائل الراحة لهم من تلفزيون وإنترنت وكتب عند الطلب، والتحدّث إليهم أحياناً كثيرة على الرغم من مخاطر العدوى التي نتعرّض لها". أمّا الأصعب والأقسى بالنسبة إلى كركي فهو "سماع المريض وهو يقول: لا أريد أن أموت وحيداً".
الخوف ما زال موجوداً بحسب ما تؤكد كركي موضحة أنّ "وتيرته قلّت مع الوقت واعتدنا التدابير والإجراءات". تضيف: "صحيح أنّ الخطر قائم دائماً في خلال استقبالنا الواصلين إلى المستشفى، بيد أنّ مهمتنا ورسالتنا تحتّمان علينا البقاء في الصفوف الأمامية على الرغم من كل شيء". وتلفت إلى أنّ "التعامل مع فيروس كورونا يختلف عن التجارب السابقة في مسيرتي المهنية، خصوصاً على الصعيد النفسي. فالدعم المعنوي أساس لمرضى كورونا، وهنا التحدّي الأهمّ. فليس لدى المرضى إلا الطاقم التمريضي وكذلك الطبي بالتأكيد، نظراً إلى أنّ الزيارات ممنوعة. بالتالي تتشكّل علاقة ورابط ما بين المريض والممرّض، فنعيش وجعه وصرخته ووحدته وتقلّباته النفسية وغضبه وانزعاجه وضحكته. ونفرح عند انتصاره على المرض، ونحزن جداً عند وفاته. وللأسف، الخسائر كبيرة في الفترة الأخيرة، وهذا العدد الكبير من الوفيات اليومية يؤثّر علينا نفسياً".
لا تخفي كركي أنّ يومياتها ونمط حياتها تغيّرا بلا شكّ. وتقول: "في البدء، واجهت صعوبات كثيرة على صعيد تبديل الملابس وارتداء الزيّ المخصص للوقاية وغسل كل ما أرتديه فور وصولي إلى المنزل، والاحتفاظ بالكمامة طيلة اليوم وتبديلها من وقت إلى آخر مع أنّها مؤذية ومزعجة. لكنّنا اعتدنا كلّ هذه الأمور الآن وباتت من الأساسيات بالنسبة إلينا. إلى ذلك، صارت الحياة الاجتماعية شبه معدومة. حتى الأيام التي أقضيها في المنزل مع عائلتي تحوّلت الى جلسات عن بُعد، وقد بتّ أخشى الاقتراب من أهلي أو الجلوس بجانبهم حتى حول مائدة الطعام حرصاً على سلامتهم. فأنا أخشى أن أحمل الفيروس من دون أيّ أعراض وأنقل العدوى إليهم".
ارتدى الممرضون والممرضات بزّات القتال وتقدّموا الصفوف في معركة كورونا
لحظات قاسية ولا تُنسَى عاشتها بدورها نيكول صوما، وهي مسؤولة قسم التمريض في العناية الفائقة في مركز الجامعة اللبنانية الأميركية الطبي - مستشفى رزق في بيروت. تقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الأكثر إيلاماً في كلّ مسيرتي المهنية الطويلة هو حالة المرضى النفسية. فمشاعرهم تتقلّب وتصل في أوقات كثيرة إلى حدّ الغضب. فالعزلة ليست تجربة سهلة، وثمّة من لا يستوعب خطورة الفيروس والإجراءات المشددة المتعلقة به. ويتأثر المصابون سلباً بعزلتهم، ويرون أنّهم في داخل سجن صغير، خصوصاً كبار السنّ الذين لا يستخدمون الهواتف الذكية ولا الإنترنت لتمرير الوقت فتزيد معاناتهم النفسية. هذا على صعيد المرضى خارج العناية الفائقة".
تضيف صوما: "مررت بتجربة صعبة وعصيبة في بداية انتشار الوباء مع فريق العمل من ممرضين ومساعدين وأطباء، إذ كان الخوف والقلق سيّدَي المشهد. الفيروس جديد ولا نعرف عنه شيئاً باستثناء أنّه معدٍ وفي إمكاننا حماية أنفسنا منه قدر الإمكان بتدابير وإجراءات وقائية غيّرت أسلوب حياتنا ويومياتنا في محيطنا". وتُخبِر صوما كيف كانت تبدّل ثيابها مراراً وتكراراً قبل العودة الى المنزل حيث تعيش مع أهلها، وكيف كانت تجلس وحيدةً في أحيان كثيرة في غرفتها "خوفاً على أهلي وحرصاً على سلامتهم. فأنا في احتكاك متواصل ومستمرّ مع مرضى مصابين بفيروس كورونا".
أمّا الخروج والاستمتاع بأوقات الفراغ مع الأصدقاء، فقد صار "خارج القاموس" بالنسبة إلى صوما، منذ انتشار الفيروس وتولّيها مع زملائها الاهتمام بمرضى كورونا في العناية الفائقة. وتوضح أنّه "طوال الأشهر السابقة، كنت أنتقل من المنزل إلى المستشفى ثمّ إلى المنزل. لم ألتزم فقط بالتباعد الاجتماعي بل اعتزلت الحياة الاجتماعية". ولعلّ أصعب ما مرّت به صوما هو رؤية مرضى من مختلف الأعمار في حالة حرجة وممنوعة الزيارات عنهم، في وقت هم أكثر حاجة فيه إلى الاهتمام من قبل أحبائهم. وهذا الأمر يؤثّر من دون شكّ على الطاقم التمريضي الذي يشاهد أوجاعهم ويستمع إلى أصواتهم وصرخاتهم وهم يندهون أولادهم بأسمائهم أو أهلهم وليس في مقدورنا تلبية نداءاتهم. فالأمر يقتصر فقط على الزيارات عن بُعد، من خلف الزجاج".
في مرّات كثيرة، لا يمكن للمريض الذي وصل مرضه إلى حالات متفاقمة من المرض أن يتكلّم، بحسب ما تشرح صوما، "فيكتفي برفع إصبعه والإشارة إلى ما يريده. من هنا، ينبغي علينا دائماً البقاء على استعداد وتأهب في كل لحظة من دون أن يغمض لنا جفن". وتلفت إلى أنّه "استثنائياً يُفسح المجال أمام العائلة لزيارة المريض إذا كان وضعه دقيقاً جداً، وعندها نساعد الزائر على ارتداء ثياب واقية ثمّ نعمل على إخراجه وفق تدابير وقائية مشددة جداً. وللأسف، في أحيان كثيرة، يأتي ذلك في لحظات المريض الأخيرة قبل أن يفارق الحياة".