مع مرور أكثر من شهر على بدء العام الدراسي الجديد، يُواصل الاحتلال الإسرائيلي العمل على منع تدريس المنهاج الفلسطيني في مدارس القدس، في محاولة لأسرلة التعليم في المدينة المقدسة. ووصلت عملية استهداف التعليم في القدس إلى ملاحقة التلاميذ وتفتيش حقائبهم أو مداهمة مدارس مقدسية بين الحين والآخر للبحث عن كتب المنهاج الفلسطيني.
ومع عودة عشرات آلاف التلاميذ المقدسيين إلى مدارسهم في القدس المحتلة، برزت مجدداً المزيد من التحديات التي تواجه أحد أهم القطاعات الفلسطينية في المدينة المقدسة، وخصوصاً بعد مشروع القانون الجديد الذي يضع شروطاً جديدة على مدارس القدس في مقابل حصولها على ترخيص مزاولة من قبل وزارة المعارف الإسرائيلية، إذ يلزمها بمواءمة مناهجها التعليمية مع المنهاج الإسرائيلي، تزامناً مع مداهمات من قبل شرطة الاحتلال لمدارس في القدس القديمة للتأكد من تطبيقها المنهاج الاسرائيلي. ويواصل الاحتلال بعد احتلاله القدس عام 1967 السيطرة بشتى الطرق على مدارس القدس والتعليم فيها.
ويؤكّد رئيس اتحاد أولياء الأمور بمدارس القدس، زياد الشمالي، لـ"العربي الجديد"، أن ما أُقرَّ من شروط عبارة عن بنود لتعليمات جديدة أضيفت إلى العقود الموقعة بين المدارس المقدسية التي تتلقى تمويلاً من بلدية الاحتلال في القدس. وتحصل مدارس عدة على تمويل من البلدية ضمن أمر واقع يحاول الاحتلال فرضه على المدينة المقدسة. يضيف أن تلك التعليمات تكتسب صفة القانون، وكانت ملاحقة المدارس والطلاب المتوجهين إلى مدارسهم لمنع المنهاج الفلسطيني منذ مطلع العام الجاري بناءً على التعليمات الجديدة.
ويصف الشمالي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، مشروع القانون الإسرائيلي بالخطير، إذ يهدف إلى الضغط على مدارس القدس للقبول بتعليم "منهاج محرف"، فيما يعمل الاحتلال منذ أعوام على تجهيل الطلبة الفلسطينيين بقضيتهم، وحرف نظام التعليم عن هدفه. ويقول إن "المنهاج الذي يوزعه الاحتلال على المدارس التابعة له يبدو من النظرة الأولى فلسطينياً، لكنه في الحقيقة محرّف. فالدروس تختلف عمّا يُدرَّس في المحافظات التي تتبع السلطة الفلسطينية. التصميم الخارجي للكتاب فلسطيني، وما في داخله مغاير لذلك".
ويحاول الاحتلال الإسرائيلي من خلال إلغاء تراخيص ست مدارس في القدس الضغط على المدارس الأخرى للقبول بتدريس "المنهاج المحرف"، محذراً من خطورة تلك المحاولات الإسرائيلية. ويرى الشمالي أن سحب تصاريح أو إغلاق المدارس يشكل خسارة كبيرة للفلسطينيين المقدسيين.
يبلغ عدد المدارس في القدس نحو 135 مدرسة خاصة وأهلية تتبع لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، وأخرى تتبع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" تدرّس المنهاج الفلسطيني غير المحرف. ويشنّ الاحتلال الحرب عليها للقبول بتدريس المنهاج المحرف إلى جانب 85 مدرسة تتبع للاحتلال، بعضها استولى عليها منذ عام 1967، وأخرى قام ببنائها، بحسب الشمالي.
في هذا السياق، يشير الباحث المتخصص في شؤون التعليم في القدس المحتلة زيد حسن القيق، لـ"العربي الجديد"، إلى تقديم أحد أعضاء حزب الليكود الإسرائيلي مطلع شهر يونيو/ حزيران 2023، مشروع قانون يشترط على المدارس قبل حصولها على ترخيص للعمل، أن تكون "متلائمة مع المنهاج الدراسي الإسرائيلي"، ما يدل على أن المدارس المستهدفة هي مدارس القدس المحتلة.
أسرلة التعليم
في قراءته لدلالات هذا المشروع، يقول القيق: "بعد الانتخابات البرلمانية الإسرائلية الأخيرة وما نتج منها من وصول المتطرفين إلى داخل الكنيست (البرلمان)، ظهر تيار جديد متطرف داخل مؤسسات القرار الإسرائيلي يعارض السياسات القائمة حيال التعليم في القدس". يتابع: "السياسة القائمة بناءً على ما جاء في ما أطلق عليه الخطة الخمسية الأولى التي بدأت عام 2017 وكُشف عنها في صحيفة هآرتس الإسرائيلية عام 2018، تهدف إلى دمج المقدسي في المجتمع الإسرائيلي من خلال التعليم والاقتصاد من طريق زيادة عدد المدارس التي تدرس المناهج الإسرائيلية، والتي تؤدي إلى دخول الطالب المقدسي جامعات إسرائيلية. وبالتالي، تمكنه من اللغة العبرية والاندماج في سوق العمل الإسرائيلي ليصبح كما يريده الاحتلال مواطناً صالحاً، على حد قوله".
هذه السياسة، بحسب القيق، وافقت عليها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ودعمتها، لكونها لا تفضي إلى صدام مع الشارع المقدسي، بل تقوم على استيعاب ودمج المواطن المقدسي في المجتمع الإسرائيلي تدريجياً. يضيف: "هذه السياسة لم ترُق المتطرفين الجدد الذين كانت وزارة المالية من نصيبهم، فهم يتبنون فكرة سحق المقدسي، لا دمجه في المجتمع الإسرائيلي، وهذه السياسة تعارضت مع رؤية جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) الذي يرغب في إذابة المقدسي في المجتمع الإسرائيلي".
ويرى القيق أن "كلا الطرفين لا يريد الفلسطيني المقدسي. فالأول يريد إذابته، والثاني يريد سحقه. من هنا، بدأت تظهر إلى العلن قرارات وكأن الطرفين في سباق لإظهار القوة أمام المجتمع الإسرائيلي، لأن هذا الملف من الملفات غير الخاضعة للرقابة الإعلامية، ويمكن للطرفين الحديث أمام الإعلام عنها على عكس الملفات ذات الطابع العسكري. لذلك، بدأت تظهر قرارات مثل منع الميزانيات، والرقابة على توظيف المعلمين الذين كانوا معتقلين سابقين (أصحاب الملفات الأمنية)، وكأن هناك سياسة جديدة".
ويقول القيق: "أيد مشروع القانون 45 عضواً وعارضه 25، ولم يقرّ بعد. لكن إقراره يعني على الصعيد الدولي الاصطدام مع اتفاقية جنيف في المادتين 24 و50 وتنصان على أن الشعب المُحتل يجب أن يتعلم وفق ثقافته ومن شخص ينتمي إلى هذه الثقافة، في ظل الاعتراف الدولي بأن القدس محتلة وليست ضمن ما يسمى دولة إسرائيل".
محلياً، يوضح القيق أن فرض المنهاج الإسرائيلي ومنع تدريس المنهاج الفلسطيني بالقوة، سيضع المؤسسات التعليمية المقدسية أمام قرارين: إما الإغلاق، وبالتالي سيجد الاحتلال نفسه في مأزق بسبب عدم وجود مبانٍ للطلاب الذين أغلقت مدارسهم، أو القبول بتدريس المنهاج الإسرائيلي للحفاظ على المؤسسات وما تقدمه من أنشطة لا صفية تدعم هويتنا وتراثنا من خلال إضعاف المنهاج وزيادة دور المعلم. وهنا تصبح مدارس القدس مثل مدارس الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 تدرس المنهاج الإسرائيلي، وهذا ما يريده الاحتلال الذي يسعى لتحطيم النسيج الاجتماعي المقدسي القوي وتحويله إلى مجتمع متناحر مثل الداخل المحتل".
مسؤولية السلطة الفلسطينية
ويرى المحلل السياسي والإعلامي راسم عبيدات أن ما يجري على جبهة التعليم في القدس خطير، ليس فقط بفعل ما تقوم به حكومة الكيان ممثلة ببلديتها ووزارة معارفها في القدس من هجمة شاملة على العملية التعليمية والمنهاج الفلسطيني في القدس لإزاحته والتخلص منه، بل إن السلطة الفلسطينية وحكومة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية ووزارة التربية والتعليم الفلسطينية شريك أساسي بما يجري.
ويقول عبيدات لـ"العربي الجديد": "عدم زيادة رواتب المعلمين وإدارات المدارس والموظفين، وعدم توفير مخصصات مالية من أجل الأنشطة والفعاليات، وعدم تمييز معلمي مدارس القدس عن بقية مدرسي المحافظات الأخرى ارتباطاً بواقع القدس ومستوى المعيشة فيها وحجم الهجمة التي تشن عليها، وعدم صرف رواتب كاملة لمعلمي تلك المدارس، ودفع المكافآت لهم والمستحقات، كلها عوامل أدت إلى تراجع أعداد الطلاب في المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وهجرة واسعة للمعلمين والطلبة من تلك المدارس".
ووصل الأمر، بحسب عبيدات، إلى حد إغلاق 25 شعبة صفية ومغادرة 700 طالب تلك المدارس، فيما تقدم 150 معلماً بطلب للحصول على إجازات مفتوحة أو استقالوا. وما يزيد الأمور تعقيداً، إمكانية حدوث إضرابات عن العمل في المدارس التي تتبع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، ما يعني أننا سنكون أمام كارثة حقيقية، وسيصبح النزف أكثر في تلك المدارس.