إلى "وزير ثقافة الدولة الإسلامية": أنا العلماني الذي يعترف

12 نوفمبر 2015
إن لك ياسيدي الوزير حصة في ما أصابني(مواقع التواصل)
+ الخط -
سأطل من قبر الثنائيات رافعاً رأسي وفي يدي مبضع من نقد، فذاتي العلمانية تحتاج حين أضعها على سرير الوجع إلى أن أجسها ثم أبدأ التشريح بيدين من عقل وضمير علّني أشرح كيف حطّت علمانيتي رحالها على موانئ الحرب واستهوت القتال.


علّني أفسّر كذلك، مآل الأصولية الإسلامية إلى خلع اعتدالها وسارت نحو التطرف فصارت لها مقاصل، مقصلة للحب، مقصلة للشعر، مقصلة للعقل، مقصلة لكل ما هو مختلف.

كيف حدث ونسيت أن سيرورة تحول العلمانية إلى ما انتهت إليه، هي ذاتها سيرورة تحول الاعتدال الإسلامي نحو السلفية المتعددة المستويات والتي يصل بعضها إلى الإرهاب المتوحش.
ثمة تماثل في السياق لأن البلاء في أصل الذات. الذات الأصولية أيما كانت، هي الذات المنقطعة عن تاريخ الروح، في الدرس الفلسفي لا ذات بلا موضوع تتخارج به، والذات الأصولية تنتج موضوعها ثم تدمره لتعود إلى عين ذاتها فتسكن إلى خوائها المطلق، والموضوع هنا هو الآخر أيما كان هذا الآخر.

كل الأصوليات تحول النسبي إلى مطلق وتنسى أن لا حقيقة مطلقة في ما هو نسبي، وأن المطلق مغلق لأنه كامل وتام والكمال هو الله المطلق. بعد ذلك يأتي كل شيء من الإقصاء إلى الاستبداد إلى الإلغاء إلى المقصلة، يقول إلياس مرقص "من لم يكن في روحه وفي عقله المطلق، يحول نسبيّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد".

سأطل برأسي من خلف الغبار، من خلف باب موارب سأطلق سراح هذا العلماني المعترف، المنصف، الناقد من سجن ذاتي ليقول: إن لي حصة من المسؤولية في ما أصابك، وإن لك يا سيدي الوزير حصة في ما أصابني، وإن للاستبداد في ما أصابنا حصة كذلك، كما كان للخذلان حصة في ما أصاب الثورة ودفع بالعديد من قواها نحو العنف والتطرف.

سأقول، إن قضية فلسطين واحتلال العراق وخللاً عميقاً أصاب العلاقة بين الغرب والشرق وحرباً كاذبة على الإرهاب ومن تحت الطاولة دعم الدكتاتوريات المجرمة وخذلان الشعوب، الموت والدمار اليومي، كل ذلك هو في أساس الأصوليات وهو ينابيعها التي أخشى أنها لن تجف، لكن الله حلم الروح وعلينا أن نحلم لأننا محكومون بالحلم.

سأقول كذلك، إن النظام العالمي وحكومته الباغية وعولمته التي لا تقيم للأخلاق أي وزن، لهو جرح في الحضارة ولسنا جميعاً بأصولياتنا المختلفة سوى أعراض هذا الجرح، يقول فليسوف الحضارة، برغسون، "كيف حدث ونسينا أن جوهر الحضارة هو الأخلاق".

نعم لقد أطاحت النخب العلمانية أول ما أطاحت العلمانية ذاتها، ذلك أنها أسقطت الموقف وكرست النزعة، وإذ ذاك أسقطت الفكرة، إذ العلمانية في مستواها الجذري هي الفكرة بما هي الجوهر، وهي الماهية/ الفراغ الماهوي/ حين يعاودنا الحنين إلى المجرد، إلى أمية الروح أو بياضها قبل أن يخط فيها التاريخ أي حرف. في المآل هزمنا أمام أنفسنا حين ضمّنّا العلمانية بؤس أروحنا، وحينها غدت سلعة وضيعة تسهم بوصم تاريخ الأفكار بمزيد التخثر والخذلان.
العلمانية النزعة - المذهب - وربما الديانة التي صوّبت سهمك نحوها أعلنت الحرب على الأشكال (الأفكار - المذاهب - الأديان - الأيديولوجيات المتخالفة والمتغايرة) وأصبحت الحكَم والخصم.

اندلع هذا المانوي القابع في إهاب الروح والذي يدفع دوماً نحو قسمة العالم - عالم الأفكار والتصورات والأشكال إلى عالم الفضيلة والصلاح أو عالم الرذيلة والفساد، وهنا تمت علينا نعمة المحنة - محنة المعنى.

سقطت العلمانية الموقف ونهضت العلمانية النزعة، وهتك ستر الباقة المنظومية التي تنتمي إليها الأخيرة، وبتنا ضحايا علمانية منتجة في التاريخ المتخثر للروح والصائرة ديناً "مقاتلاً"، هكذا "بحكمة السفيه أسقط الحكيم وليده".

سقطت العلمانية بما هي الديمقراطية بالسلب (الديمقراطية في ذاتها ومن أجل ذاتها وفق الصيغة الهيغلية) وسقط معها الرحم المفهومي الذي تنزلت منه أضلاع النسق حين يتم الذهاب نحو الجذور.

العلمانية هي الديمقراطية الواجبة وفق المقتضى الكانطي وفي الترسيمة النظرية تشكل كل من العلمانية والديمقراطية والعقلانية مثلثاً متساوي الأضلاع، وهذه الأضلاع تصبح قوائم لموقف ثقافي وسياسي وأخلاقي يعيد المساواة البينية للأشكال والرؤى ويعدل حتى بين أشكال الهذيان.

الموقف النقدي إزاء التراث والموروث هو رهان العقلانية النقدية التي تؤسسها العلمانية لكنّها لا تستنفدها، وهو مشروع أمة على اختلاف مرجعياتها ومشاربها وتباين رؤاها وهو مسؤولية أمة تشاء أن تعاود إطلاق تاريخها الداخلي السجين وتقيل تجربتها الحضارية من العثار.

هو مشروع العقل الديني المنفتح والعلماني المنفتح الواعي لذاته سواء بسواء لأنني ما زلت أرى أن هذه المهمة الكبرى هي على جدول أعمال التاريخ – تاريخ هذا الحطام الذي تكونه الأمة.

لقد نجحت أيها الوزير في إطلاق أسئلة سهام جهة اثنتين من أهم بلايانا (العلمانية المقاتلة - الماضوية الشرسة)، سهام غائرة في مستوى إصابتها الأولى وظافرة في مستوى إصابتها الثانية، إذ تروم في البدوات فضح هذا القيح وتبغي في الخواتيم الظفر برد ماء الوجه والاعتبار لبعدين ضاربين تتأسس عليهما نهضة الزمن القادم، الموقف العلماني بطيفه الشاسع والموقف النقدي لعقل ديني لا يحسن التعديل إزاء رواياته، إزاء موروث التهمنا حين استحال بكل طبقاته الى مقدس.

اقرأ أيضاً: وزير ثقافة الدولة الإسلامية "هكذا أصبحت داعشيا"

(سورية)
المساهمون