كثر هم الأطفال واليافعون الأيتام الذين ينتظرهم مستقبل غامض بالعراق، في حال لم يجدوا من ينتشلهم من واقع متردّ يعانون منه على أكثر من صعيد، لا سيّما أنّهم يعيشون في معظم الأحيان في كنف أسر شديدة الفقر.
أدّت الحروب وأعمال العنف في العراق إلى ارتفاع كبير في عدد الأيتام الذين يعاني قسم كبير منهم من مشكلات نفسية واجتماعية باتت تمثّل خطراً على مستقبلهم. ويتسرّب كثيرون من الدراسة، فيما لا يُستبعد أن يكون الإجرام سلوكاً مستقبلياً لدى بعضهم على خلفية ظروف قاهرة دفعت كثيرين منهم إلى سوق العمل بأعمار صغيرة جداً، وسط غياب تام لأيّ معالجات أو رعاية حكومية لهذه الشريحة. ويوجّه متخصّصون اللوم إلى الجهات الرسمية ويتّهمونها بإهمال هؤلاء الذين يحتاجون إلى اهتمام كبير وبرامج متطوّرة لتأهيلهم حتى يتجاوزا التأثيرات النفسية التي نجمت عن مقتل الأب.
وتشكو والدة فرقد عبد الرزاق من سلوك ابنها الذي بلغ عامه السادس عشر، قائلة لـ"العربي الجدد" إنّه "لم يعد يرغب في مواصلة تعليمه ويتحدث كثيراً عن الثأر لوالده الذي قُتل في أعمال عنف ببغداد". وشهد العراق على مدى سنوات تفجيرات دموية وعمليات اغتيال وقتل عشوائية تورّطت فيها تنظيمات إرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" وكذلك عشرات من المليشيات المسلحة التي راح ضحيتها عدد كبير من العراقيين. لكنّ فرقد وفق ما تشير والدته "يحمّل الحكومة والمجتمع مسؤولية مقتل والده"، موضحة "هو يقول إنّ الحكومة لم توفّر الأمان الكافي للمواطنين وإنّ المجتمع يدعم الحكومة من خلال إعادة انتخاب الأحزاب الحاكمة نفسها". تضيف والدة فرقد: "أظنّ أنّه يعاني من مشكلات نفسية، فهو يعزل نفسه لساعات طويلة، ولا يكلّم أحداً لأيام، ويغيب لساعات كذلك خارج المنزل رافضاً إعلامي أين كان، ويرفض كذلك أن يقدّم له الآخرون النصيحة". وتشير الوالدة إلى أنّ "ما يخيفني هو تحذيرات تردني من معارفي بأنّ سلوكيات ولدي تشابه سلوكيات كثيرين في الفترة التي سبقت تحوّلهم إلى مجرمين".
ويُعَدّ التسرّب المدرسي سبباً مهماً وراء انحراف تفكير الأطفال واليافعين، وهو ما تركّز عليه منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في العراق. ووفقاً لوكالة الأنباء العراقية (واع) فإنّ المنظمة اتّخذت إجراءاتها لمنع تسرّب الأطفال العراقيين من المدارس، معتمدة على محورَين هما العمل على منع الأطفال من التسرّب المدرسي بالإضافة إلى دعم الأطفال الذين هم في خارج المدرسة بهدف إعادتهم إليها. لكنّ عائلات عراقية، وعلى الرغم من إدراكها خطورة تسرّب أولادها من المدارس، تجد أن لا حيلة لها أمام عدم رغبة أبنائها في استكمال تعليمهم، لا سيّما الأسر التي تعاني من فقر شديد، مثل عائلة ميثم. فالمراهق كان يوصف بالذكاء حينما كان أصغر سنّاً، وقد توقّع له معارفه مستقبلاً علمياً. في هذا الإطار، يخبر عمّه حسن الركابي أنّ "ابن أخي الذي يبلغ حالياً الخامسة عشرة من عمره، انخرط في سوق العمل ويرفض العودة إلى المدرسة".
ويقول الركابي لـ"العربي الجديد": "نحن عائلة فقيرة. أنا وإخوتي نعيش مع أسرنا في أحياء عشوائية تفتقر إلى أبسط الخدمات. وقد قُتل أخي، والد ميثم، في الحرب مع داعش بعدما تطوّع للقتال مع الحشد الشعبي في عام 2016". يضيف أنّ "ميثم لم يكن في حال سيئة قبل سنوات، فهو كان مجتهداً ويحظى بعلامات جيدة في المدرسة، وكان الجميع يتوقع له مستقبلاً علمياً جيداً، لكنّه قبل ثلاثة أعوام بدأ يسأل كثيراً عن والده وسبب تطوّعه للقتال، خصوصاً أنّه راح يشعر بالحرمان من الأبوّة. من جهتنا، لم نعد قادرين على تغيير ما يفكّر به. هو لا يريد إكمال تعليمه ويعمل أحياناً في السوق، علماً أنّه يتنقّل من عمل إلى آخر". ويشير إلى أنّه "على الرغم من صغر سنّه يفكّر بالهجرة ومغادرة البلد، قائلاً: لا مكان لي هنا. إمّا أن أهاجر وإمّا أتحوّل إلى مجرم أو سارق"، موضحاً أنّه "يستاء كثيراً من حالة الفقر التي تعيشها أسرنا ويرى أنّه لا يمكن تغيير هذا الواقع إلا بطرق غير قانونية".
تفيد مفوضية حقوق الإنسان المستقلة في العراق بأنّ عدد الأيتام الإجمالي يبلغ خمسة ملايين، الأمر الذي تنفيه وزارة التخطيط العراقية التي تشير إلى أنّ العدد الكلي للأيتام لا يتجاوز 650 ألفاً، فيما يقول ناشطون إنّ الأرقام الحقيقية مجهولة. ويلفت هؤلاء الأخيرون إلى أنّ الأيتام ممّن قُتل آباؤهم في أحداث العنف والحروب منذ أكثر من عشرة أعوام وكانت أعمارهم حينها تتراوح ما بين ثمانية أعوام و15 عاماً، عددهم كبير جداً. وهؤلاء صاروا يافعين وشباناً وآثار ما جرى لآبائهم ما زالت حيّة في داخلهم وتحثّهم على الانتقام والثأر على الأقل لعدد منهم. وهذا ما تؤكده كذلك الناشطة في مجال حقوق المرأة والطفل، الباحثة الاجتماعية ندى العبيدي، لـ"العربي الجديد".
وترى العبيدي أنّ "معاناة هذه الشريحة من الأطفال واليافعين تستوجب تضافراً حكومياً ومجتمعياً كبيراً"، مؤكدة أنّ "الحكومة لا تستطيع في الوقت الحالي حلّ هذه المشكلة التي تسبّبت فيها تراكمات سنوات طويلة، عندما تحوّل العراق بمعظم مناطقه إلى ساحات حرب ألحقت الدمار بالبنى التحتية شاملة المدارس والمستشفيات والمتنزّهات وأماكن الترفيه التي تساهم كلها في نشأة الطفل نشأة سليمة". يضيف العبيدي أنّ "كلّ ما يعيشه العراق الآن يؤثّر على جميع الأطفال واليافعين بشكل عام، وذلك لأنّ البلد بات يفتقر إلى المرافق الترفيهية والثقافية والاجتماعية والرياضية والتعليمية والصحية التي تحتاجها الناشئة. هذا على مستوى الأطفال الذين يعيشون في كنف والديَهم، لكنّ الحال أصعب كثيراً بالنسبة إلى الذين فقدوا آباءهم، خصوصاً بسبب العنف".
من جهته، يرى المتخصّص في الصحة النفسية علي الربيعي أنّ "وفاة شخص عزيز قد تترك أثراً سلبياً ومريراً دائماً في نفس من فقده، لا سيّما إذا قد قُتل غدراً أو مات ضحية ابتزاز أو إلى ذلك". ويحكي عن سلبية تضرّ بالمجتمع من جرّاء الأثر الذي تخلّف حالة الوفاة، خصوصاً "مع عدم توفّر بيئة حاضنة مناسبة تساعد الطفل أو اليافع على التخلص من السلبية". ويشدّد الربيعي على "دور كبير للمؤسسات الحكومية والمنظمات المدنية والمجتمع، لكنّ ذلك صعب التطبيق في العراق نظراً إلى الأوضاع المتردية اقتصادياً بالإضافة إلى الصراعات السياسية الداخلية التي تعوّق المشاريع التربوية والنفسية الناجحة".