دفعت الأحوال المعيشية القاسية الطفل مهاب الكشتو (14 سنة)، إلى صيد الأسماك في نهر العاصي بغية مساعدة والدته في الإنفاق على العائلة بعد وفاة والده في قصف تعرضت له مدينة إدلب قبل عامين، فبادر لاستثمار إقامته بالقرب من نهر العاصي في مدينة دركوش، ليبدأ مهنته غير آبه بالمخاطر.
مع ساعات الصباح الأولى، ينطلق مهاب بثياب متسخة مرقعة وبشرة داكنة من جراء التعرض الطويل لأشعة الشمس في رحلته اليومية، ليتسنى له رمي الشباك في النهر والانتظار ريثما تعلق بعض الأسماك في شباكه، مستخدماً قاربا صغيرا ومجاذيف قديمة متهالكة.
تعلم الطفل مهاب المهنة من أحد الصيادين الذي خرج معه في عدة رحلات قبل أن يقرر العمل منفرداً، والاعتماد على نفسه، ولأن الصيد يتطلّب الكثير من الخبرة والمهارة، واجه الكثير من التحديات والمخاطر نتيجة صغر سنه. يقول: "تعرضت مرات عدة لضربات الشمس، وكدت أتعرض للغرق أكثر من مرة من جراء التيارات القوية المفاجئة للنهر، بالإضافة إلى تأثيرات الظواهر الجوية الموسمية، وكنت أنجو في كل مرة بمساعدة بعض الصيادين، ومع ذلك لا يمكنني التخلي عن تلك المهنة لأنها تسد بعض المصاريف الضرورية".
يضيف: "أسعار الأسماك تكون حسب العرض والطلب، وانخفاض كمية الأسماك النهرية الطازجة في السوق يرفع الأسعار، لا سيما في فصل الصيف مع كثافة إقبال المستهلكين على تناول الأسماك، ومنهم أولئك الذين يقصدون ضفاف النهر للاستجمام والتنزه".
وتعرّف الأمم المتحدة عمالة الأطفال بأنها الأعمال التي تضع عبئاً ثقيلاً على الأطفال وتعرّض حياتهم للخطر، وهي تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي والتشريعات الوطنية في جميع دول العالم. وبحسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، يعيش أربعة من بين كل خمسة أشخاص في سورية تحت خط الفقر، ما يعرض الأطفال لانتهاكات إنسانية متعددة، كاضطرارهم للعمل، وزواج القصر، والتجنيد للقتال، وكل ذلك بغية مساعدة عائلاتهم.
ويؤكد الطفل جلال الحسون (13 سنة)، أن الصيد بالنسبة لعمره ليس سهلاً، إذ يحتاج إلى مهارة وخبرة للتعامل مع مياه النهر التي غالباً ما تشكّل تيارات مختلفة، ويقول إنه "يجب التعامل مع مياه النهر بحذر، ووفق دراية مسبقة كي لا تتسبب في فقدان توازن القارب وغرقه، وهو ما حدث معي في مرات سابقة، قبل أن أتعلم من أخطائي، وأتمكن من تجاوز كل التحديات".
يعيش جلال في مدينة عفرين، واعتاد الصيد مع والده منذ نعومة أظافره، وبعد إصابة والده بأمراض الديسك والروماتيزم، بات يصطاد منفرداً ليساعد أهله في الإنفاق على المنزل بما يجود عليه النهر من صيد يومي. يصطاد جلال أنواعا مختلفة من الأسماك النهرية، أهمها السلور والكارب والجري، ويبيع الأسماك التي يصطادها في الأسواق بنفسه خشية استغلال التجار وأصحاب المحال لصغر سنه، فضلاً عن حاجته إلى بيعها سريعاً.
وتقول المرشدة النفسية والاجتماعية وجدان الصطوف إن الأطفال غالباً ما يدفعون الفاتورة الأعلى في الصراعات، مضيفة لـ"العربي الجديد"، أن "تأثيرات الحرب وما رافقها من أوضاع معيشية قاسية اضطرت آلاف الأطفال إلى ترك التعليم وألقت بهم في مهن أكبر من أعمارهم، خصوصاً أولئك الذين حرمهم الصراع من معيليهم، والذين باتوا يعولون أنفسهم ويبحثون عن قوت عوائلهم".
وأشارت الصطوف إلى أن "المهن الخطرة تخلف تأثيرات كبيرة على حياة الطفل العامل، ولكون الأطفال لا يدركون خطورة هذه الأعمال، فهم لا يستطيعون حماية أنفسهم خلال ممارسة الأعمال الشاقة، وعلى منظمات المجتمع المدني السورية تحمل المسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال الذين يقاسون لتوفير فرص العيش، والعمل على تحسين أوضاعهم المادية، ومحاولة إعادتهم إلى مقاعد الدراسة، وإبعادهم عن كل ما يهدد مستقبلهم وحياتهم".
وكشفت منظمة "منسقو استجابة سورية" في تقرير، أن 85 في المائة من الأطفال المتسربين من المدارس في مناطق شمال غربي سورية، والبالغ عددهم نحو 318 ألفاً، يعملون في مهن مختلفة، بعضها خطرة، مضيفة أن "نسبة التسرب المدرسي والتوجه إلى العمل تطاول 2 من كل 5 أطفال، وسط توقعات بارتفاعها خلال الأعوام الثلاثة المقبلة بسبب المصاعب المستمرة". وعزا التقرير تفاقم عمالة الأطفال إلى أسباب عدة، من أبرزها الوضع الاقتصادي الذي يدفع الأهالي إلى زج أبنائهم في سوق العمل، فضلاً عن استمرار النزوح والتهجير الذي يزيد صعوبة تأمين المستلزمات.