تعترض صعوبات كبيرة حياة أطفال ولدوا خلال السنوات الماضية في سورية، من دون أن يملكوا أوراقاً ثبوتية بسبب انتساب آبائهم، وهم من جنسيات مختلفة، إلى تنظيم "داعش"، الذي قاتلوا في صفوفه على الجبهات، ثم اختفوا بمقتلهم أو اعتقالهم أو فرارهم إلى أماكن مجهولة. ويُعدّ ظهور جيل كامل لا وجود له في دوائر النفوس الرسمية من أخطر آثار الحرب السورية.
وتنتشر ظاهرة فقدان النسب في معظم مناطق سورية التي نزحت إليها عائلات "داعش" بعد موجات القصف والمعارك، وآخرها من بلدة الباغوز، شرقي محافظة دير الزور، عام 2019، حين قضى أزواج كثر. وأعقب ذلك احتجاز معظم العائلات في مخيمات تابعة لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، في محافظة الحسكة، وأهمها الهول وروج، فيما استطاعت عائلات أخرى قليلة الإفلات من قبضة "قسد" عبر الاستعانة بمهرّبين وسماسرة للوصول إلى مناطق محافظة إدلب.
يقول المحامي فهد القاضي لـ"العربي الجديد": "تراوح أعمار هؤلاء الأيتام بلا نسب بين ثلاثة وعشرة أعوام، ويعانون من إهمال كبير بسبب تجنب المنظمات تقديم أي دعم مادي أو اجتماعي أو نفسي حقيقي لهم، خصوصاً أنهم بلا وثائق شخصية كونهم من جنسيات مختلفة". وتؤكد الأرملة التونسية أم موسى، التي فقدت زوجها في معركة الباغوز ولديها خمسة أطفال وتقيم في مدينة عفرين، شمال محافظة حلب، لـ"العربي الجديد"، أنها تواجه تحديات كبيرة جداً في تأمين المستلزمات الضرورية لأولادها، مثل لقمة العيش والدواء، وتتولى تعليمهم بنفسها بسبب رفض المدارس في منطقتها استقبالهم بحجة عدم توافر وثائق رسمية لها ولأطفالها، وتشير إلى أنها وجهت دعوات عدة للسفارة التونسية عبر منظمات الأمم المتحدة لتأمين عودتها إلى بلادها، لكنها لم تتلقَّ أيّ رد. ويتحدث القاضي عن مبادرات شخصية يبذلها أهل الخير لمساعدة الأيتام والأرامل، فيما تقوم الأمم المتحدة بمحاولات خجولة ومحدودة للتواصل مع الدول التي يتحدر هؤلاء الأطفال منها لإعادتهم إلى أوطانهم. وقد سلّمت "قسد" نساءً وأطفالاً كُثراً على فترات متفاوتة، آخرها في 16 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، شملت ثمانية أطفال كانوا موجودين في مخيم الهول، وجرى تسليمهم إلى مفوضة حقوق الأطفال في روسيا ماريا لفوفا بيلوفا.
فتوى تزويج الأرملة
ويوضح الناشط موسى الخلف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنَّ "انتشار ظاهرة الأطفال بلا نسب نتجت من فتوى أصدرها مشرّعو داعش تفيد بوجوب زواج أرملة العنصر القتيل بآخر من الإخوة، إذ اعتبروا أنَّ سكن المرأة بمفردها حرام شرعاً. ومخيم الهول خير شاهد على هذه الظاهرة، إذ يضم أكثر من ألفي طفل بلا قيد"، يضيف: "جلبت هذه الفتوى مشاكل كثيرة. ونذكر حالة شمسة، التي تتحدر من الرقة وتزوجت من عنصر تونسي عرّفه التنظيم باسم مهاجر، وقتل في قصف جوي، ثم أجبرت على الزواج من عنصر آخر يعتقد أنه صديق للمتوفى، بعدما كانت قد أنجبت فتاتين وصبي من الزوج الأول، من دون أن يسجلوا على قيده، ثم أنجبت طفلين من الزوج الثاني من دون أن يسجلوا أيضاً".
ويتحدث الخلف أيضاً عن عائشة، التي تزوجت من ابن عمها المنتمي إلى "داعش" قبل أن يقتل بعدما أنجبت طفلاً، فأجبرت على الزواج من عنصر آخر أنجبت منه طفلة قبل أن يقتل بدوره، فتزوجت من ثالث، وأيضاً عن حسيبة التونسية، التي هاجرت مع زوجها وأطفالها الثلاثة، ثم قتل زوجها في الرقة بعد عامين من دخول العائلة إلى سورية، فلم يسمح لها التنظيم بأن تعيش وحدها مع أطفالها، فتزوجت من صديق زوجها، وهو تونسي أيضاً، وأنجبت منه طفلين، فبات لديها خمسة أطفال بلا وثائق رسمية.
أيتام إدلب
ويكشف القاضي أن عدد أيتام "داعش" بلا أب وأم 160، يتوزعون على 45 من الذكور و115 من الإناث، وهم موجودون في مناطق بمحافظتي إدلب وحلب. أما عدد الأرامل مع أطفالهن فيبلغ 630، يتوزع أولادهن على 1862 من الإناث و1306 من الذكور، وتمكث 250 منهن في مدينة سرمين، حيث توجد معهن 780 فتاة و420 صبياً، والباقون في مدن إدلب وسرمدا وإسقاط وحارم والدانا وبنش وسلقين ومعرة مصرين وتل عاد وقاح، وفي ريف حلب بمدن الباب وأعزاز وصوران وعفرين وجنديرس.
ويُشكّل مخيم الهول، الذي يضم 57.501 فرد ينتمون إلى 15.631 عائلة، بينها 2.448 من عائلات قتلى ومعتقلي "داعش" الأجانب المتحدرين من أكثر من 60 دولة، مصدر قلق على الصعيدين الأمني والمعيشي. ويتشارك مخيم روج بريف مدينة المالكية التابعة للحسكة في المعاناة ذاتها، إذ تقطنه نحو 800 عائلة تضم 2500 شخص، جميعهم من النساء والأطفال، وبينهم لاجئات عراقيات ونازحات سوريات، إضافة إلى عائلات أجنبية من جنسيات غربية وعربية.
النسب قانوناً
وبسبب غياب المحاكم الشرعية الحكومية نتيجة الحصار المفروض على مناطق المعارضة، اضطرت آلاف النساء إلى الزواج بموجب ما يُسمّى بـ"كتاب براني" (خارجي) يجعل الأم التي تفقد زوجها بسبب الوفاة أو الاعتقال أو الخطف أو الهجرة أو الطلاق، وأحياناً بسبب ضياع الأوراق الثبوتية، وحيدة مع أطفالها من دون إمكان إثبات نسبهم إلى أبيهم.
ويرى المحامي محمد سليمان دحلا، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ "إثبات النسب يتطلب أولاً تصديق عقد الزواج في الدوائر الرسمية. فقانون الأحوال المدنية السوري نصّ في المرسوم التشريعي رقم 26 الصادر عام 2007 على أنه "في حال ولادة طفل من زواج غير مسجل، فلا يجوز تسجيله إلا بعد تسجيل الزواج"، يضيف: "بين الشروط التي يجب أن تتوفر لتسجيل عقد القران في الدوائر الرسمية توثيق كل البيانات الشخصية للزوج في صك القران، ورقمه الوطني، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزوجة، وحضور ولي الزوجة وشاهدين من الذكور البالغين مع ذكر بياناتهم الشخصية الصحيحة، وتوفير المهر، وتحديد تاريخ العقد. وفي حال نقص أحد هذه الشروط، لا يُمكن احتساب العقد بأنه صحيح، ولا يسجل في المحكمة".
ويلفت إلى أنَّ "حجم المشكلة يزداد في حالات العقود العرفية وربما الشفهية بين زوجة سورية وزوج أجنبي لا تحدد بياناته الشخصية في العقد، ثم يختفي، كما حصل في مناطق سيطر عليها داعش. فهنا يصبح الأطفال مجهولي النسب، فهم نتاج زواج شرعي ووالدتهم معروفة لكن الأب مجهول، وتشملهم بالتالي المادة 29 من قانون الأحوال الشخصية التي تنظم أحكام اللقيط، وهو الطفل الذي لا يعرف والديه".
ويذكر دحلا أيضاً أنَّ "قانون الأحوال الشخصية السوري نصّ في المواد رقم 128 وحتى 136 حالات النسب وثبوته، وأهمّها وأكثرها شيوعاً النسب الناشئ عن عقد الزواج حيث يلحق الابن بأبيه، ويلتزم كلّ منهما بواجباته نحو الآخر. أما جهل هوية الأب واختفاؤه فيجعل دعوى تثبيت الزواج مردودة شكلاً، ويمنع إثبات نسب الأولاد، ما يجعلهم يعيشون بلا هوية ولا حقوق، ويواجهون الآثار النفسية والاجتماعية الكبيرة لهذا الأمر".
ويؤكد دحلا أنَّ "هذه القضية تتطلب معالجة وطنية ضمن المرحلة الانتقالية، تلحظ إيجاد حلول قانونية وإدارية واجتماعية لمعالجة المشكلة وآثارها. ويمكن مبدئياً إنشاء سجل مدني خاص بالأطفال الذين ولدوا خلال سنوات الحرب، وتسجيلهم مع بيانات أمهاتهم، مع السعي إلى التحقق من هوية الآباء كي لا يتحوّل الأطفال إلى مكتومي قيد أو عديمي جنسية. أمّا نسبة الولد إلى أمه فهي ثابتة في كلّ حالات الولادة الشرعية أو غير الشرعية.
يذكر أنَّ الإدارة الذاتية التابعة لـ"قسد" تطالب الدول المعنية باستعادة مواطنيها المحتجزين لديها أو إنشاء محكمة دولية لمحاكمة عناصر داعش، منذ إعلانها القضاء على "داعش" في آذار/ مارس 2019، وقد تسلمت عدة دول أفراداً من عائلات "داعش"، من بينها دول استعادت عدداً كبيراً منهم، مثل أوزبكستان وكازاخستان وكوسوفو. أما أوروبا فاستعادت عدداً محدوداً من الأطفال اليتامى.