أضرار متفاقمة... الزلزال يترك جروحاً لا تُمحى

18 فبراير 2023
نجت من الموت... ليبقى الخوف (أمين سانسار/ الأناضول)
+ الخط -

وقع الزلزال وسقط الآلاف بين قتلى وجرحى ومفقودين. انهارت المباني والبيوت. سجّلت الكاميرات الندوب الجسدية والجروح، وتصدعات الأبنية، وتشققات الأرض. تحصي البيانات أعداد القتلى والمصابين والناجين، إلا أن جروحاً أخرى لم تلتقطها الكاميرات ولم تحصها العدادات، هي تلك التي شقّت الأنفس وأرعبت الأرواح، وما زالت مختبئة داخل الأجساد.
يقول رئيس دائرة الطب النفسي في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت، فادي معلوف، لـ "العربي الجديد": "أعداد المتضررين نفسياً من الكوارث الطبيعية يفوق بكثير أعداد المتضررين جسدياً. الضرر النفسي لا تحكمه المسافة، ويطاول الأشخاص القريبين والبعيدين، وتتسبّب الكوارث الطبيعية مثل الزلازل بعوارض كالشعور بالخوف والقلق، واضطرابات في الأكل والنوم، وفي السلوك، ومن الممكن أن تتطوّر إلى اضطرابات نفسية، مثل اضطراب الكرب التالي للصدمة، أو الاكتئاب، أو القلق، ويعتبر الأشخاص الذين عايشوا الكارثة عن قرب، والأفراد الذين يعانون اضطرابات نفسية أو عايشوا صدمات سابقة أكثر عرضة لها".  
ويؤكّد رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى القديس جاورجيوس الجامعي في بيروت، جورج كرم، لـ "العربي الجديد": "الأثر النفسي لكارثة الزلزال يختلف بين الأشخاص، ويظهر الأشخاص الذين عايشوه عوارض منها التوتر، والخوف، والقلق الشديد، وفقدان الأمل. وقد تتطوّر في حال عدم معالجتها إلى اضطراب الكرب التالي للصدمة. يعاني المصاب مشاعر الخوف، وكوابيس ليلية، والتوتر في حال تذكر ما له علاقة بالصدمة وغيرها". 
ويضيف كرم: "تشير الدراسات العلمية إلى أن نسبة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة تسجل ارتفاعاً لدى المجتمعات التي عايشت الزلازل لتبلغ 40 في المائة، مقارنة بالمعدّل العام البالغ 5 في المائة. ويعتبر الأشخاص الذين عايشوا صدمات سابقة في حياتهم أكثر عرضة للإصابة باضطراب الكرب ما بعد الصدمة، إذ لا ينسى الدماغ التجارب الماضية أو مشاعر القلق المصاحبة لها. معظم العوارض النفسية تزول أو تخف مع مرور الوقت من دون الحاجة إلى تدخل طبي نسبة إلى قدرة الأشخاص على المرونة والتعاطي مع الأزمات. بينما يحتاج الأشخاص الذين يعانون العوارض النفسية لفترة زمنية طويلة  إلى مساعدة من قبل المتخصصين النفسيين". 

ويشير معلوف إلى أن "الأطفال أكثر عرضة للإصابة بتوترات نفسية عند وقوع الزلازل، إذ يصعب عليهم استيعاب ما يجري، أو السيطرة على الحالة، كما لا يمتلك الأطفال المهارات الفكرية والسلوكية للتعامل مع مشاعر القلق والخوف. ويمكن أن يظهر الأطفال دون الخمس سنوات، اضطراباً في السلوكيات كعدم التحكمّ في التبوّل، والنوم إلى جانب الأهل. كما يظهر الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 12 سنة عوارض جسدية تعبّر عن آلام نفسية كأوجاع البطن والرأس، والتعلّق الشديد بالأهل، ويميل المراهقون للانطواء، ويصاب بعضهم بنوبات هلع. ويعتبر الأطفال، الذين لديهم تجارب سابقة أكثر عرضة للآثار النفسية لدى حصول الكوارث الطبيعية. كما ينعكس سلوك الأهل على الصحة النفسية للأطفال". 

ويؤكد معلوف أن "تقديم المساعدة بعد التعرّض للصدمات يحصن الصحة النفسية لدى المنقذين والمسعفين، من خلال الشعور بمساعدة المجتمع الذي ينتمون إليه. إلا أن عدم القدرة على الإنقاذ في بعض الأحيان قد يولّد لدى البعض شعوراً بالذنب والإحباط". 
ويقول كرم إن المنقذين والمسعفين معرضون، أيضاً، للإصابة باضطراب الكرب ما بعد الصدمة، باعتبار أنهم عاشوا المأساة، في المقابل، يساعد التطوع في مساعدة الآخرين في بلورة مشاعر إيجابية، من خلال الشعور بالرضا عن النفس، والتركيز على مآسي الآخرين، ما يحمي الدماغ من آثار القلق والتوتر. 

هول الكارثة سيكون له آثار نفسية على الناجين (محمد الرفاعي/ فرانس برس)
هول الكارثة سيكون له آثار نفسية على الناجين (محمد الرفاعي/ فرانس برس)

في ظلّ الحاجة إلى الكوادر الطبية والإسعافية والمساعدات الغذائية، والمأوى، يتساءل البعض عن أهمية متابعة الصحة النفسية لدى حدوث الزلازل. ويشرح جورج كرم أن "الاهتمام بالصحة النفسية ضروري عند حصول الكوارث، فالعوارض الجسدية قد تتعافى مع الوقت، لكن العوارض النفسية تبقى في حال عدم معالجتها. ولا فائدة لتأمين الغذاء والمأوى من دون التنبّه للصحة النفسية التي قد تشّل قدرة الأشخاص على متابعة حياتهم وأعمالهم". 
بدوره، يرى معلوف أن تأمين الحاجات الأساسية للمتضررين والناجين من الزلزال يشكّل جزءاً أساسياً من الصحة النفسية، فتوفير الأمان والطبابة والغذاء والمأوى يساهم في تعزيز الصحة النفسية التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الصحة العامة، ولا صحة جسدية من دون صحة نفسية سليمة. 
تتنوّع الإرشادات والنصائح في مواجهة الآثار النفسية للزلازل. يقول الطبيب معلوف: "من المهم توفير الشعور بالأمان للمتضررين، وتأمين الحاجات الأساسية لهم من مأوى وغذاء، والابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي لتفادي مشاهد الركام والضحايا، ومحاولة مساعدة الآخرين، وتعزيز مشاعر التضامن والتعاطف، والعمل على عودة الأشخاص تدريجياً إلى حياتهم الطبيعية من عمل ودراسة. ويلفت إلى أن المنظمات الدولية الصحية تؤمن، عند حدوث الكوارث، التدخلات النفسية الأولية والطارئة ثم تساعد، في المراحل التالية، الأشخاص على التعبير عن المشاعر التي اختبروها من خوف وفقدان، وتعزيز تواصلهم مع المجتمع والآخرين". 

مشاهدة لقطات الكارثة تفاقم شعور التوتر (أوزان كوزيه/ فرانس برس)
مشاهدة لقطات الكارثة تفاقم شعور التوتر (أوزان كوزيه/ فرانس برس)

ويشدّد الطبيب كرم على "ضرورة مساعدة المتضررين في تأمين الغذاء السليم، والنوم الكافي، ومحاولة الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي، وتكرار الأخبار والمشاهد المأساوية لمنح الدماغ استراحة وحمايته، وأهمية استعادة الأشخاص روتينها اليومي، والتركيز على جوانب حياتها الأخرى للحد من ثقل الصدمة عليها". 

من جهتها، توصي "الجمعية الأميركية لعلم النفس" الأشخاص المتضررين من الزلازل بأخذ استراحة من الأخبار ومن مشاهدة لقطات الكارثة التي تفاقم شعور التوتر، والاستمرار في الممارسات الروتينية التي يمكن القيام بها، ما يريح الدماغ من التفكير بالزلزال، والتركيز على بعض الأمور الإيجابية التي تعيد الثقة بتجاوز الأيام الصعبة، والمساهمة في الأعمال التطوعية التي تُحدث فرقاً في المجتمع، ومحاولة اكتشاف مكامن القوة لدى الشخص. 

ويجري الباحثون العلميون دراسات عدة حول الأثر النفسي للزلازل في مناطق شهدت كوارث على مر الأعوام. على سبيل المثال، قام باحثون بدراسة تداعيات الأثر النفسي للزلزال الذي ضرب بيرو في يوليو/ تموز 2021، وتبين نتائج الدراسة أن 52 في المائة عانوا من الاكتئاب، أو من القلق. وفي دراسة علمية أخرى حول الناجين من زلزال ضرب مقاطعة سيتشوان الصينية في عام 2008، بلغت نسبة انتشار اضطراب كرب ما بعد الصدمة 40 في المائة، وارتبطت عوامل خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب بالنساء، وبالأشخاص ذوي الدخل المنخفض، وبغياب الدعم الاجتماعي.

المساهمون