على مدار السنة، من دون أن تنعم براحة أسبوعية أحياناً، تبدأ عملها اليومي منذ الخامسة صباحاً، بتنظيف حظيرة أبقارها وتغيير العلف، ثم تنظيف الضروع قبل حلبها، وصولاً إلى تسليم الحليب قبل السابعة صباحاً للبائع، الذي يسلمه بدوره إلى إحدى شركات تجميع الحليب. كذلك تتولى إرضاع العجول الصغيرة، وإيقاد النار لتدفئتها في الشتاء.
تغلب صورة الفتاة البسيطة الأمية أو ذات التعليم المحدود على المرأة الريفية في تونس، بل ربما ترسخ في الذهن صورة الفتاة ذات الهيئة البسيطة والملابس الرثة، لكنّ الشابة أسماء القماطي (27 عاماً)، كسرت تلك الصورة النمطية عن الفتاة الريفية. فهي أولاً مُجازة باللغة الإنكليزية، ولم تنتظر أن تنعم بوظيفة أو بعمل في أحد المعاهد لتدريس اللغة، كما أنّها تهتم بمظهرها على الرغم من عملها في الحظيرة، وهو ما لفت انتباه جميع متابعيها على مواقع التواصل الاجتماعي. تقول أسماء إنّها "مغرمة منذ طفولتي بالأعمال الزراعية بجميع أصنافها وبتربية الأبقار خصوصاً. نشأت في ضيعة والدي في محافظة الكاف، شمال غربي تونس، وبدأت في تربية بقرتين فقط بعد تخرجي من الجامعة مباشرة، على الرغم من رفض عائلتي لترك اختصاصي وخوض تجربة العمل في مجال شاق يُعتقد أنّه حكر على الرجال".
تشير أسماء إلى أنّها عاشت في بيئة محافظة ولم تكن ترافق والدها باستمرار خلال عمله في الضيعة. لكنّها اليوم باتت تقوم بكلّ الأعمال للعناية بالأبقار بمفردها من دون مساعدة.
وأثبتت لعائلتها التي رفضت عملها، أو لأولئك الذين شككوا في قدرة خريجة تعليم جامعي على تربية الأبقار، أنّها استطاعت التأقلم مع عمل أحبته من خلال مرافقة والدها أحياناً خلال قيامه ببعض الأعمال الزراعية، كما انتقلت بالمعرفة إلى مستوى أعلى، إذ تلقت دورة تدريبية في بعض الأعمال الزراعية، خصوصاً في تربية الأبقار.
تضيف، في حديث لـ"العربي الجديد": "بتّ اليوم أعتني بتسع بقرات وثمانية عجول. وأنا من أصحاب المشاريع الصغرى أو من صغار مربي الأبقار، فأحقق بعض الأرباح المقبولة التي تتغير من موسم إلى آخر بحسب إنتاج الحليب. حبي لعملي يدفعني إلى توسيع المشروع أكثر خلال السنوات المقبلة". وتتابع: "بالرغم من انتقاد البعض لي ولعملي، فقد وجهت أكثر من رسالة خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي حول العمل الزراعي أو تربية الأبقار، وضرورة التشبث بأيّ عمل يمكن النجاح فيه، خصوصاً أنّ تونس تتمتع بمناخ يساعد على العمل الزراعي في عدّة جهات، لا سيما الشمال الغربي. وأردت توجيه رسالة بأنّه ليس بالضرورة أن ينتظر كلّ من تلقى تعليماً في الجامعات التعيين في الوظيفة العمومية أو أيّ وظيفة حتى في القطاع الخاص ليضمن دخلاً شهرياً ثابتاً، فكلّ شاب وشابة قادران على تأسيس مشروع خاص بهما، خصوصاً في المجال الزراعي، مع ضرورة عدم الخجل من أيّ عمل مهما كان".
تشير أسماء إلى أنّها تعمل يومياً وتكاد لا تتمتع بأيّ عطلة أسبوعية لعدّة أشهر. فهي تعتني بالأبقار بمفردها، وتتيح لها أن ترعى في المراعي القريبة من الحظيرة في تلك القرية الصغيرة. رفيقها كتاب وبعض الزاد للأكل، فيما يدوم عملها في الرعي قرابة ثلاث ساعات صباحاً، على أن ترعى الأبقار أيضاً ثلاث ساعات أخرى بعد الظهر، لتعود قبل المغرب إلى الحظيرة، حيث تقدم بعض العلف والماء وتقوم بتنظيف المكان، لتنهي عملها عند الساعة السابعة مساء.
وعلى الرغم من أنّ تربية الأبقار عمل شاق، وظلّت حكراً على الرجال في منطقتها، فإنّ حبها للعمل الزراعي وتربية الأبقار خصوصاً جعلها تتعلم يوماً بعد يوم كلّ ما يتعلّق بهذا المجال من دون أيّ مساعدة، بل إنّها تقوم أحياناً بحرث الأرض لزراعة الأعلاف وبعض الخضر، وتجني المحاصيل رفقة نسوة القرية. لا تخجل بأيّ عمل ولا تشعر بصعوبة ما قد تقوم به لمساعدة والدها.
تقول أسماء إنّها لم تنقطع عن المطالعة، فكلما سنحت لها الفرصة تطالع باستمرار أيّ كتب تحصل عليها، حتى خلال رعيها الأبقار. كذلك، تهتم بمظهرها كثيراً، وهو ما أثار انتقاد بعض متابعيها، فعلق بعضهم: "كيف لفتاة تربي الأبقار أن تهتم بمظهرها وتلبس على الموضة؟". تضيف: "كسرت الصورة النمطية عن الفتاة الريفية، وأنا أصرّ على التقاط الصور خلال عملي لأوصل رسالة لآلاف الشباب الذين ينفرون من العمل الزراعي ولا يحبّذون المشقة، أنّ كلّ شخص قادر على العمل بالترافق مع إعطاء وقت لنفسه ولحياته ولشكله". وتشير إلى أنّ الأعمال الزراعية توفر مداخيل أفضل من وظيفة منتظرة بدخلها الشهري البسيط. وتلفت إلى أنّ عائلتها التي رفضت في البداية تخليها عن شهادتها واختصاصها "باتت اليوم فخورة بما أفعل في الضيعة، وفخورة بنجاح مشروعي على الرغم من أنّي لم أتلقَّ أيّ دعم من أيّ جهة حكومية أو أيّ منظمة تدعم المرأة الريفية".