أحلام صغار غزة... سرير ومياه ساخنة وسمّاقية وملجأ وحديقة

20 ديسمبر 2023
يشاركون في أنشطة للحد من آثار العدوان على صحتهم النفسية (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
+ الخط -

ليست أحلام صغار غزة في العيش بأمان واللعب وتناول الطعام من الخيال، بل هي حقوق أساسية. إلا أن الاحتلال حرمهم منها حتى باتوا يرونها أحلاماً

في مراكز النزوح التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، حيث وصل عدد النازحين فيها إلى 1.4 مليون يقيمون في 155 منشأة في كافة محافظات قطاع غزة الخمس، يبدو المشهد مكتظاً بالأطفال والنساء والعائلات من مختلف الفئات العمرية، والتي تتشارك ظروفاً إنسانية صعبة للغاية. مع ذلك، ما زال للأطفال أحلامهم. 
يبحث بعض صغار غزة عن الطبشور أو الأقلام لتفريغ طاقاتهم وكتابة بعض العبارات والأحلام التي لم يتخلوا عنها رغم أجواء الحرب اليومية وخسارتهم لأصدقائهم ومنازلهم وأقاربهم. في معظم الأوقات، يسمعون أصوات القصف لكن بعضهم لا يبالي ويتابع اللعب في ساحة المدرسة.
نزح الطفل بسام الشيخ (7 سنوات) من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، وتحديداً إلى مدرسة تابعة لأونروا تقع في منطقة تل السلطان غرب مدينة رفح. شارك قبل أيام أحلامه مع الأطفال خلال تنفيذ مجموعة من الناشطين الاجتماعيين العاملين مع الوكالة أنشطة للأطفال. لكنه لم يعلن عن جميع أحلامه لأنها تتشابه مع الكثير من صغار غزة الراغبين في العودة إلى منازلهم، على أمل ألا تكون قد دمرت جراء العدوان.
يقول بسام لـ"العربي الجديد": "أحلم أن أعود للنوم في سريري بدلاً من النوم في المدارس وتنشق الروائح الكريهة في المراحيض يومياً، والذهاب إلى حديقة برشلونة في تل الهوا واللعب فيها وألا يكون الجيش الإسرائيلي قد دمرها، وأتناول الطعام الذي تعده أمي وخصوصاً الملوخية والبامية والبيتزا".
لا يدري بسام حجم الدمار الذي حل في حي تل الهوا وصولاً إلى حديقة برشلونة التي تعد من أبرز الحدائق الكبيرة في القطاع، وتضم ملعباً للأطفال إلى جانبها. فقد ألحق الاحتلال الإسرائيلي أضراراً بهذه الحديقة خلال العدوان الحالي، وسبق أن دمرها في العدوان الأول على قطاع غزة عام 2008-2009 وعدوان عام 2021.
على مقربة من بسام، كان الطفل سامي عطالله (5 سنوات) يشعر بالفرح كلما رأى شخصاً يرتدي سترة حماية مثل فرق وكالة أونروا أو حتى الصحافيين، إذ يظن أن المدرسة لن تقصف في ظل وجود من يرتدون سترات حماية. كان مع عائلته عندما تضررت مدرسة غزة الجديدة التابعة لأونروا قبل الهدنة خلال الشهر الماضي، ونزح برفقة أسرته من مدينة غزة إلى رفح.
يقول سامي لـ"العربي الجديد": "أريد أن تستمر الهدنة طوال الوقت". والهدنة بالنسبة إليه تعني "فش حرب"، أي لا حرب. يرغب بألا تعود الحرب أبداً، ويأمل بأن يتمكن من تغيير مدرسته هو الذي كان يدرس في الصف الأول ابتدائي داخل مدرسة تابعة لأونروا. كان يراها مدرسة جميلة لكن بعد الحرب لا يريد أن يعود إليها إذ بات يشعر بالخوف منها. 
على مقربة من سامي، كان يقف ابن عمه أحمد (8 سنوات)، إلا أنه ضحك مستهزئاً من السؤال عن حلمه أثناء الحرب. ويقول لـ "العربي الجديد": "لا أريد أن أحلم هنا. أريد العودة إلى منزلنا وألا يكون مدمراً ومن هناك أبدأ بالحلم. لماذا أحلم هنا حيث لا أشرب مياهاً نظيفة وأتناول طعاماً مراً؟ أحلم الآن بحوض استحمام ومياه دافئة لأستحم طويلاً. هنا نستحم في زجاجات معبأة بالمياه وهي باردة جداً".

تشير أونروا إلى أن الاكتظاظ زاد بنسبة كبيرة خلال الأيام الأخيرة في مدارس أونروا في جنوب القطاع، وأكثر من 1.2 مليون نازح يقيمون في 98 مرفقاً في الوسط وخانيونس ورفح. بلغ متوسط عدد النازحين في ملاجئ أونروا التي تقع في مناطق الوسط والجنوب 12,387 نازحا، وهو أكثر من أربعة أضعاف طاقتها الاستيعابية. ومنذ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تاريخ بدء العدوان، نزح ما يصل إلى 1,9 مليون شخص (أو أكثر من 85 بالمائة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة، بعضهم عدة مرات. ويتم إجبار العائلات على النزوح بشكل متكرر بحثاً عن الأمان.
كانت الطفلة نغم طه (8 سنوات) تجلس على مقربة من الأطفال تصفف شعرها بخجل. في الوقت نفسه، تنصت إلى حديث الأطفال عن أحلامهم. اقتربت لتسأل عن موعد انتهاء الحرب. وعندما سمعت الرد "إن شاء الله قريباً"، قالت: "كلكم بتقولوا نفس الشيء"، ثم أشارت إلى أنها تريد التفكير في أحلامها قبل الحديث عنها. عادت لأنها لم تجد قلماً تكتب بواسطته أحلامها، وجلست على درج منصة الإذاعة المدرسية، ونظرت إلى السماء وقالت إن "في السماء زنانة إسرائيلية قد تقصفني كما قصفت جميع صغار غزة". تضيف في حديثها لـ"العربي الجديد": "أريد أن أعود إلى منزلنا في أبراج الكرامة (شمال قطاع غزة)، حتى لو كانت الأيام صعبة وتنقطع الكهرباء. أريد أن تعود الحياة كما كانت. كنت أشحن الجهاز اللوحي الذي أملكه مرتين في اليوم. أما اليوم، فأشحنه مرة كل بضعة أيام. أريد أن أشاهد مسلسل ماشا والدب، كذلك قناة الطفلة انستاسيا (طفلة روسية تقدم محتوى مغامرات للأطفال)".

أطفال يتفاعلون مع المهرّج (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
أطفال يتفاعلون مع المهرّج (سعيد الخطيب/ فرانس برس)

أما الطفل زين الشنطي (7 سنوات)، فكان يضحك ويُضحك الأطفال من خلفه مع كل إجابة. يقول لـ"العربي الجديد": "أريد مقلوبة ومحاشي وخصوصاً ورق العنب مع دبس الرمان، والذهاب إلى ساحة الكتيبة كل يوم جمعة، وشراء بوظة من محل كاظم (أشهر وأقدم محل مثلجات في قطاع غزة)". توقف قليلاً ثم تابع وقد اختلفت نبرة صوته: "هذا كله عندما تنتهي الحرب التي لا يعلم ميعاد انتهائها سوى الله".
أما أسامة النجار (5 سنوات) وشقيقه عز الدين (8 سنوات) فيحلمان في إنشاء ملجأ كبير يضم صغار غزة تحت الأرض، على أن يبنيه (الناطق باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس) أبو عبيدة. ويتضمن الملجأ مياهاً وطعاماً للأطفال حتى لا يموتوا من الجوع. ويعيش فيه الأطفال مع أمهاتهم حتى لا تقتلهم الحروب. يتابع أنه يحلم بعد انتهاء الحرب أن يتوجه لتناول بيتزا الطابون (سلسلة مطاعم تقدم البيتزا والوجبات السريعة في قطاع غزة)، ويلعب في الزاوية المخصصة للأطفال، على الرغم من أنها مساحة لا تتجاوز العشرين متراً مربعاً. لكنه يحب المكان. أما شقيقه عز الدين، فيريد أن يحضر سهرة شباب، أي حفلة توديع العزوبية ويرقص فيها. يقول لـ"العربي الجديد": "اشتقت لطبق السماقية (طبق غزاوي الأصل يرتبط بالمناسبات السعيدة الجماعية والأعياد وخصوصاً عيد الفطر، وحفلات توديع العزوبية. والبعض يعده على مدار العام، ويتكون من السماق والبصل والحمص والسلق وزيت الزيتون وغيرها من المكونات). كنا قد اجتمعنا لإعداد الأكلة في عرس خالي قبل شهر من الحرب. طلبت من أمي أن تعده لنا في المدرسة، لكنها أخبرتني بأن ذلك غير ممكن". 

تمارين التخيل والأحلام 

تُشارك المرشدة النفسية عبير طالب طواقم التنشيط الاجتماعي والدعم النفسي للأطفال عملها في مراكز الإيواء، وقد شكلت أونروا هذا الفريق لتقديم التدخل العاجل للحد من الآثار النفسية وخصوصاً لدى الأطفال داخل مراكز النزوح. تحاول تصميم أنشطة لتوجيه طاقة الأطفال نحو الألعاب والتمارين الرياضية والتحديات، وتركز على تمارين التخيل لشغل أذهانهم في الأحلام. تقول إن الأطفال يعربون عن معاناتهم في ظل ظروف الحرب بطرق مباشرة، أي من خلال الغضب والحركة الزائدة وطرح الأسئلة بشكل مفرط. وتقول إنه في أكثر من مركز إيواء تابع لأونروا، ظهرت على صغار غزة أعراض من قبيل اضطرابات في الكلام والتبول اللاإرادي والنكوص (الرجوع أو النكوص أو التقهقر إلى مرحلة سابقة من مراحل العمر وممارسة السلوك الذي كان يمارسه في تلك المرحلة لأن هذا السلوك كان يحقق له النجاح في تلك المرحلة العمرية).

أحلامهم ما زالت كبيرة (محمد عبد/ فرانس برس)
أحلامهم ما زالت كبيرة (محمد عبد/ فرانس برس)

وتقول طالب: "أفضل تمرين نقوم به حالياً هو الرسم وتخيل الواقع والحلم. أطفال قطاع غزة منفتحون على العالم بطريقة قد تكون لها آثار إيجابية أو سلبية على المستقبل. الإدراك الكبير لما يحصل حولهم يدفعهم للتحليل، ما قد يسبب آثاراً سلبية عليهم من خلال الاندفاع نحو العنف والقوة في الأمور اليومية. لكن الجانب الإيجابي هو الذكاء الذي ينمو معهم". 
تضيف: "هناك جزء من طفولتهم لا يزالون يحافظون عليه، أي الأحلام البريئة. يعتقدون أن جميع الأطفال في العالم يواجهون نفس ظروفهم وأن في إمكانهم القيام بشيء ما رغم قلة الإمكانيات. أعتقد أن كل شيء يمكن أن يقتل في غزة إلا أحلام الأطفال".

المساهمون