ليسوا كثراً الغزيون الذين يحافظون على البيوت الأثرية في القطاع، تلك التي تعود إلى العهد المملوكي أو العثماني وكذلك تلك المبنيّة من الطين. آمنة محمد الفقيه من بين هؤلاء، وهي تقيم في بيت صغير من الطين تفضّله على تلك الكبيرة وحتى القصور، وقد ملأته بأدوات قديمة تُعَدّ أثرية. وآمنة البالغة من العمر 80 عاماً تعود أصول عائلتها إلى مدينة غزة، وهي عائلة عملت في المجال الزراعي على مدى عشرات السنين في منطقة الزرقاء الواقعة في شرق المدينة، وعاشت طوال حياتها في بيوت من الطين.
لا تتجاوز مساحة بيت آمنة الصغير 80 متراً مربعاً، وهو يقع وسط قطعة من الأرض تغطيها سجادة من العشب الأخضر فيما تنمو فيها أشجار الليمون والعنب. أمام البيت، ثمّة سلال مصنوعة من الخيزران ومكنسة قديمة مصنوعة من الجريد وآنية فخارية للمياه. كذلك تعلق خيرات الأرض كما كان الناس يفعلون في الماضي.
وتخبر آمنة "العربي الجديد" أنّه "في بداية حياتي، عشت في بيت من الطين في المنطقة. البيوت كلها كانت كذلك، وقاطنوها كانوا من الفلاحين. بالنسبة إليّ، هذا النوع من البيوت أفضل من كل تلك المشيّدة من الإسمنت أو من الخشب. في البيوت العادية، تحتاج إلى وسائل تدفئة أمّا هنا فالحرارة بخلاف ما هي في خارجه، وأشعر بدفء كبير فيه".
قبل أكثر من ستين عاماً، تزوّجت آمنة لكنّها لم ترزق بأطفال. وفيما انتقل زوجها للإقامة في السعودية، رفضت ترك غزة حيث بقيت لتربّي شقيقها الأصغر. ثمّ اهتمّت بتربية ابنتَي شقيقتَيها وابن شقيقها. الأخير يُدعى محمد وهو يعدّها أمّاً له وأولاده يعدّونها جدّتهم، فيما ترى هي فيه الابن الذي لم تُرزق به. ومحمد الذي يبلغ من العمر 45 عاماً، هو الذي اهتمّ ببيت عمّته التي يزورها يومياً، ويصطحب أحياناً أصدقاءه إلى هذا البيت المصنوع من الطين. يُذكر أنّ آمنة هي التي أطلقت عليه اسم محمد، تيمّناً بشقيق لها توفي وهو يبلغ من العمر 16 عاماً. هو قتل على أيدي لصوص حاولوا سرقة بيتهم.
في داخل البيت، تعرض آمنة أدوات قديمة يتخطّى عمر عدد منها 100 عام، من قبيل المصابيح التي تعتمد على الوقود وكذلك مصابيح النحاس وبوابير الكاز التي ما زالت تعدّ عليها بعض المشروبات الساخنة، بالإضافة إلى مطاحن قهوة صغيرة وأباريق شاي وقهوة من النحاس، وعلب من الخشب لتخزين الطعام، وإطارات للزينة من النحاس، إلى جانب مرايا وجه قديمة تستخدمها حتى اللحظة. وتشدّد آمنة "لا أحب الأدوات البلاستيكية. أحب الحياة القديمة بكل تفاصيلها وأدواتها. وأحاول مع محمد البحث عن الأغراض القديمة وإحضارها إلى البيت".
يُذكر أنّ آمنة تشعر بأمان كبير في بيتها، إذ تقول: "أشعر بالتعب عندما أخرج. وفي مرّة دخلت إلى المستشفى وقضيت 10 أيام فيها، ولم أشعر بالراحة إلا عند عودتي إلى بيتي".
من جهته، يقول ابن أخيها، محمد الفقيه، لـ"العربي الجديد"، إنّه "مذ كنت طفلاً، كنت أعشق تشكيل الطين بالقرب من الأراضي الزراعية. كنت أشعر بارتياح كلما اقتربت منه، وكنت أشكّل بكتل الطين الحروف العربية". يضيف "في ذلك الحين، كانت آمنة تعيش في منزل من الطين، غير أنّه كان رديئاً جداً، وعندما كبرت قررت أن أبني لها بيتاً مشابهاً في داخل الأرض التي أملكها". ويشير محمد إلى أنّ "عمتي آمنة أو والدتي، زوّدتني بتفاصيل البناء الطيني، وهكذا صار لديها بيت صغير صُمّم هيكله ومحتواه بحرفية من طين قويّ مخلوط بالشعير".
ويوضح محمد "أحضرت أطناناً من الطين والقش، وبدأت بتحضير قوالب الحجر الطيني، ليستمر العمل لنحو ثلاثة أشهر من دون كلل أو ملل". يضيف "استطعت تصنيع 5500 حجر من الطين، وبمساعدة أبناء عائلتي أنهينا البيت. أمّا السقف، فكان الأساس من ألواح حديد خفيفة وضعنا الطين عليها وغطيناه".
يؤكد محمد أنّه يحب هذا البيت المصنوع من الطين، "وأجد كذلك راحتي فيه أكثر من المنازل العادية. وقد جمعتُ في داخله أدوات صيد وحرب، وأخرى للتجارة والترحال، ومطحنة قمح وشعير وعدس، ومرجون وزير لحفظ المياه، بالإضافة إلى محراث قديم". ويتابع أنّ "بيت الطين بالنسبة إلينا هو واقع الحياة القديمة وتاريخ الآباء والأجداد، لذا نقضي معظم الوقت فيه مع أمّنا آمنة، ونتشارك مع أفراد العائلة ذكريات الزمن الجميل وحياة غزة القديمة. فتروي لنا حكايات الأجداد، على ضوء مصابيح الكاز، أو في حين تكون الشبابيك الخشبية مفتوحة على الأرض الخضراء. نحن نحافظ على إرث الفلاح الفلسطيني من خلال هذا البيت".