تنهمك الطالبة نسيمة قربال (30 عاماً) في وضع اللمسات الأخيرة لبورتريه ترسمه، وإلى جانبها أقلام رصاص بدرجات مختلفة. وغير بعيد عنها يتدرّب زملاؤها على رسم العين والحاجب من زوايا متعددة وفقاً لدرجات الضوء والظل. وفي القاعات القريبة حركة لا تهدأ لمواهب داخل ورشات المسرح والكوميديا وصناعة المحتوى، كأول خطوة في مسار تحقيق أهداف كانت حتى الأمس القريب بعيدة المنال بالنسبة لهؤلاء الشباب.
وجدت نسيمة قربال وزملاؤها متنفساً لهم في مدرسة الفنون "آرت سكول" (Art school) في منطقة سلا المغربية القريبة من العاصمة الرباط، التي فتحت أبوابها للطلاب في يناير/ كانون الثاني 2022، وهي أول مؤسسة مهنية مجانية في المدينة تمنح فرصة للشباب الموهوبين سواء للمنقطعين عن الدراسة أو غير الحاصلين على شهادات تحقيق أحلامهم شرطة توفر الموهبة والمهارة.
تتلقى نسيمة دروساً نظرية وتطبيقية في شعبة الفنون التشكيلية التي اختارتها، وتقول إن هذه المؤسسة هي بمثابة "بوابة النور" لها لتحقيق حلمها في أن تصبح فنانة تشكيلية. وتوضح أنها تمكنت في "آرت سكول" من صقل وتطوير موهبتها بالتكوين، فضلاً عن استبعاد كل الشحنات السلبية والتمتع بالسلام الروحي والتصالح مع الذات واستعادة الثقة في النفس، إيماناً بمقولة "تحرك بثبات وحرية لتنتج الجمال".
أما عمر قلو (27 عاماً) فيقول إن "آرت سكول" بمثابة دفعة قوية للشباب الموهوبين لتحقيق أحلامهم واستكمال مشاريعهم الفنية، مشيراً إلى أنه وجد في هذا الفضاء فرصة للتكوين والانفتاح على شعب آخر، بالإضافة إلى مراكمة الخبرة في السينما والمسرح الذي يزاوله على مدى أكثر من 10 سنوات، شارك خلالها في مسرحيات وأعمال وطنية منها الفيلم القصير "سراديب الغضب" الذي فاز بجائزة أحسن فيلم مغربي قصير في مهرجان الرباط الدولي سينما المؤلف عن نسخته السابعة والعشرين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
اختار عمر شعبة المسرح لاستكمال طموحه، ويقول لـ "العربي الجديد": "وجدت ذاتي داخل هذا الصرح الفني بين طلاب يعشقون المسرح وهو أبو الفنون، ويتطلعون إلى الاحتراف".
تشاطره في الرحلة أميمة العتيوي (26 عاماً)، الطالبة بشعبة الكوميديا التي تعتبر نفسها محظوظة كونها تتلقى التكوين على يد أساتذة يتمتعون بالكفاءة المطلوبة، سواء فيما يتعلق بالممارسة الميدانية أو الكتابة الساخرة وإيصال رسائلهم بطريقة فنية. وتتمنى أميمة التي حازت وزميلتها سمية الجائزة الثانية من مهرجان الكوميديا في الحي المحمدي عام 2023، من السلطات المعنية مزيداً من الدعم وخصوصاً في ما يتعلق بشهادات التخرج لطلاب المؤسسة وتعزيز رسالة الفن وأثره على أرض الواقع.
قصة ميلاد صرح فني
تُعدّ مدرسة الفنون "آرت سكول" أول مؤسّسة فنية بمواصفات مهنية تجمع بين الكوميديا والمسرح والسينما والموسيقى والرسوم المتحركة والفنون التشكيلية بمدينة سلا، وتعمل على استقطاب المواهب في هذه المجالات، بالإضافة إلى ورشات تتعلق بالتسويق الرقمي وصناعة المحتوى وتطوير الذات وغيرها بهدف التكوين والاندماج في سوق العمل، ما يساهم في بناء شخصية متوازنة وقوية وناجحة على المستويين العملي والشخصي.
وأبصرت مدرسة الفنون النور بمدينة سلا في ديسمبر/ كانون الأول 2022 بفضل جهود الفنان والكوميدي أنور خليل، الذي عمل لسنوات على تحقيق حلمه. ثابر ليكون له ما أراد وهكذا نال المشروع الذي تقدم به باسم جمعية "آرت وورك" الموافقة والدعم والتمويل من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (برنامج تنموي حكومي لمحاربة الفقر ودعم مبادرات الشباب بشراكة مع الجمعيات)، ليعلن عن ميلاد "آرت سكول".
ويقول خليل لـ "العربي الجديد": "رأى هذا الحلم النور بعد مخاض عسير اجتاز فيه مراحل عدة. بدأت التفكير في متنفس للأنشطة المدرسية الموازية، ثم انتقل إلى مدرسة للكوميديا، إلى أن استقر الحال على تشييد مؤسسة فنية شاملة". شُيّد هذا الصرح الفني على مساحة تقدر بـ 1500 متر مربع، ويشمل عدداً من قاعات التكوين، بالإضافة إلى قاعة للمسرح تتسع لأكثر من 200 مقعد واستوديوهات للتصوير ومقهى ومرافق أخرى.
إقبال
التحق حوالي 175 طالباً بـ"آرت سكول" ضمن الفئة العمرية ما بين 18 و40 عاماً. وتراهن المؤسسة على تكوين 210 شباب من المدينة سنوياً، مع إعطاء الأولوية لغير الحاصلين على شهادات في مجال السمعي البصري، وتقنيات تنظيم الفعاليات، والتسويق الرقمي، وصناعة المحتوى، والفنون التشكيلية. ويوضح خليل أن طريقة اختيار الطلاب تمت وفق منهجيتين، الأولى تنظيم قوافل للبحث عن المواهب في المسرح والكوميديا، والثانية اعتماد مقابلات عمل واختبارات في ما يخص باقي الشعب الفنية.
يشرف على تأطير الطلاب المنخرطين في المدرسة أساتذة وفنانون ومدربون يحملون شهادات عليا وتكوينات مهنية، ويعملون على إضافة خبراتهم الواسعة ومعرفتهم من أجل منح الشباب أسساً راسخة في التقنيات الفنية التقليدية والممارسات الفنية المعاصرة وضمان انفتاحهم على سوق العمل. ووفقاً لخليل، فإن إدارة المدرسة حرصت على اختيار فريق متكامل انطلاقاً من توفر الكفاءة والقدرة على العطاء ونكران الذات، مشيراً إلى أنها تضم أكثر من 24 موظفاً آمنوا بالمشروع ورسالته.
ولادة جديدة
يقسم الطلاب على 7 أقسام، ويضم كل قسم 30 طالباً وطالبة بحسب التخصصات، وتستغرق مدة التكوين تسعة أشهر. ويقول خليل إنه "تم اعتمادها لدلالتها الرمزية في ولادة جديدة لهؤلاء الشباب". ويوضح أنه خلال الشهرين الأول والثاني، يتلقى الطلاب الدروس نظرياً. وبدءاً من الشهر الثالث، يبدأ الجانب التطبيقي. على سبيل المثال، فإن طلاب شعبة الكوميديا ملزمون بتقديم عروض كوميدية أسبوعية في المقهي الكوميدي، فيما طلبة شعبة المسرح مطالبون كذلك بتقديم عروض مسرحية. أما برنامج صناعة المحتوى، فهو مصمم لمساعدة الطلاب على تطوير المهارات والمعرفة اللازمة لإنتاج محتوى جذاب وفعال وبجودة عالية لمختلف وسائل الإعلام.
يضيف خليل: "من مميزات برنامجنا التعليمي التركيز على التعلم القائم على المشاريع التي ينتجها الطلاب في النهاية والتي تساعدهم على شق مسارهم في المجال المهني". ولا يقتصر دور المؤسسة على إعطاء الدروس النظرية والتطبيقية لطلابها المستفيدين، بل إنها تتجاوز هذا الدور التقليدي إلى الاستفادة من تطور التكنولوجيا الحديثة وأثرها على الجودة، من خلال توفير الأجهزة المتطورة اللازمة لتأمين تعليم معاصر، إلى جانب الانفتاح على ورشات تطوير الذات إذ إن عماد التنمية هو الاستثمار في الرأسمال البشري، كما تقدم لهم منحاً من أجل تشجيعهم على الانخراط في سوق الشغل.
مصنع متكامل
يعد الفن التشكيلي من بين الشعب الأساسية داخل المؤسسة، التي تسعى إلى تنمية إبداعات كل طالب ومساعدته على تطوير روحه الفنية الفريدة، بدءاً من الدروس التمهيدية إلى المتقدمة التي تركز على جعلهم يوسعون الإطار الإبداعي وفق منهج يعتمد على التجربة والخطأ والاكتشاف بقصد اكتشاف اهتماماتهم وتطوير أسلوبهم الخاص.
وفي السياق، يقول الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير والأستاذ في شعبة الفنون التشكيلية بالمؤسسة محمد الخو، لـ"العربي الجديد": "آرت سكول مدرسة أكاديمية تضم 7 شعب فنية موجهة لفائدة مواهب مدينة سلا، بهدف احتضانهم وتطوير مهاراتهم في المجالات التي اختاروها، وتأهيلهم لسوق العمل، إلى جانب التعرف على مجالات أخرى في المقاولات وصناعة المحتوى والتسويق الرقمي. ولعل هذا ما يجعلني أصف هذه المؤسسة بالمصنع الذي يحمل على عاتقه مسؤولية المشاركة في تطوير الشباب وإبراز قدرتهم على التسويق والتخطيط للمستقبل".
ويوضح الخو الذي راكم في رصيده المهني أكثر من 12 سنة من الخبرة والتجربة، أن طلبة الفنون التشكيلية يستفيدون من تكوين مكثف، ويتلقون تقنيات الرسم والصباغة لتعزيز موهبتهم وتمكينهم من إنتاج لوحات يستطيعون الحديث عنها نظرياً وتسويقها في معارض مستقبلية، ولعل هذه هي القيمة المضافة للمؤسسة. يتابع: "نحن هنا في مدرسة الفنون نرسم الحياة، ورهاننا الأكبر افتتاح فروع للمؤسسة في كل المدن المغربية، وإعطاء فرصة للكفاءات والمواهب أن تقول كلمتها فنياً، فالفن هو صمام الأمان ضد الأفكار الظلامية، وهو بمثابة جرعة لتطهير الذات، وبوسعه أيضاً أن يكون مجالاً للاحتراف وليس ترفاً".
وتطمح مدرسة "آرت سكول" إلى الانفتاح على شركاء وطنيين ودوليين بقصد تحقيق مزيد من الإشعاع، ويبذل خليل والخو وباقي الفريق جهوداً كبيرة لإنجاح هذه التجربة، وتشجيع المواهب على تحقيق ذواتهم وأهدافهم بمشاريع منتجة لترسيخ قدمهم في سوق العمل، فضلاً عن تحفيز الجيل الجديد على الإبداع.