ينطلق زياد طه (35 عاماً) يومياً بعد صلاة العصر مباشرة إلى ميناء غزة، وبحوزته حقيبة صغيرة تحتوي على بالونات بلاستيك متنوعة الأشكال والأحجام والألوان، والتي ينفخها فور وصوله ويثبتها في عيدان طويلة، ثم يضع نحو 20 منها على كتفه ويتنقل بين العائلات التي تتنزه داخل ميناء غزة من أجل بيعها.
باشر طه مزاولة هذا العمل قبل عامين ونصف العام، بعدما أمضى ثلاث سنوات في بطالة كاملة عقب تسريح إحدى شركات المقاولات له من منصب الإشراف على صيانة السباكة. ثم عمل في بيع السجائر في أحد شوارع غزة الأمر الذي لم يوفر له دخلاً مناسباً، ما جعله ينتقل إلى بيع البالونات، والذي أحبه رغم أنه يعترف بأنه أكثر صعوبة من بيع السجائر.
يقول طه لـ "العربي الجديد": "كل المهن صعبة في غزة. حاولت العودة إلى السباكة، لكنني أدركت أنني قد أعمل يوماً واحداً في مقابل ملازمة المنزل أسبوعاً كاملاً. كما عانيت من مشكلة حصولي على أجرتي اليومية في اللحظة ذاتها، لأن الزبون لا يملكها ويؤجل الدفع حتى يتوفر المال لديه. وحين بدأت العمل في بيع البالونات، شعرت بالخجل ثم وجدت أنها أفضل من بيع السجائر لرجال ومراهقين".
يؤكد طه الذي رزق بطفلين أنه يحب النظر إلى ابتسامات الأطفال حين يشترون بالونات منه، بينما لا ينكر أنه كان ينزعج سابقاً من بيع السجائر لمراهقين. ويشير إلى أن بائعي البالونات يزدادون في منطقة الميناء خصوصاً يومي الخميس والجمعة، ما يضطره إلى النزول إلى الشاطئ والمشي مسافة طويلة من أجل بيع ما يتراوح بين 30 و50 بالوناً.
وقد نشط عمل بائعي البالونات في العامين الماضيين على تقاطعات شوارع قطاع غزة التي تشهد ازدحاماً، وقرب محلات الألعاب وملابس الأطفال ومراكز التسويق، وكذلك المتنزهات وأماكن الترفيه وشاطئ البحر، حيث ينتشرون لجذب الأطفال إلى شراء البالونات ولفت نظرهم إلى أشكالها المتنوعة.
واللافت أن هذا العمل كان يمارسه الأطفال حصراً قبل نحو خمس سنوات، قبل أن يقبل عليه الرجال والشباب، ما يزعج الفتى براء العطار (13 عاماً) والذي انضم قبل خمس سنوات إلى ثلاثة أطفال آخرين يبيعون بالونات في متنزه الجندي المجهول. يقول براء لـ"العربي الجديد": "أدرس في الصف السابع وأقيم في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وأبيع البالونات لتأمين مصروفي ومصروف إخوتي الخمسة، أما والدي فبائع خضار متجول. لقد اعتدت على ممارسة هذا العمل الذي جعل شخصيتي أقوى، فحين أتقدم إلى السيدة أضحك في وجهها ووجه الطفل كي تتقبلني وتشتري مني بالوناً، لكنني أنزعج أحياناً من كثرة بائعي البالونات".
ولا تقل درجة انزعاج بائع بالونات آخر يدعى محمد رحيم (13 عاماً) يعمل في متنزه السرايا. يقول لـ"العربي الجديد": أحاول أن أحضر في أوقات مبكرة كي أزيد رزقي، إذ أعلم أن الرجال والشباب ينافسونني عليه، لكنني أرى أن الناس أكثر إقبالاً على شراء بالونات من أطفال".
بدوره، يقف أيمن عاهد (27 عاماً) ممسكاً بأعواد البالونات ومرتدياً زياً جميلاً أمام الزبائن الذين يمشون قرب محال تجارية في سوق الرمال وسط شارع عمر المختار في غزة. يلفت أنظار المتسوقين الذين كان تعجبوا في البداية من ردائه الذي رأوا أنه لا يصلح لبائع بالونات، لكنّهم اعتادوا عليه بعد ذلك، وباتوا يطلقون عليه لقب "أبو الملابس الحلوة".
من جهته، يوضح عاهد لـ"العربي الجديد" أنه طالب جامعي حصل على دبلوم في المحاسبة قبل 6 أعوام، مشيراً إلى أن بعض أصحاب المحلات استغلوه للعمل معهم بأجرة محدودة، ثم بعدم دفع أحدهم أجرته مرة، ما اضطره إلى التوقف، وتأسيس بسطة لبيع الحلوى عرضته لخسائر مالية مرات، قبل أن يقرر بيع البالونات. ويقول: "أحضرت في يوليو/تموز 2018 بالونات صغيرة حمراء وعليها رأس قلب، ونجحت في بيعها، ثم بالونات بلاستيك عليها شخصيات يحبها الأطفال وأشكال متنوعة، وواصلت هذا العمل بأسعار تتراوح بين شيكل و3 شيكلات (30 و90 سنتاً). يضيف: "أقطع يومياً مسافة 10 كيلومترات من مكان إقامتي في مخيم دير البلح من أجل بيع البالونات في سوق الرمال بشارع عمر المختار. هذا العمل أفضل من التعرض للإذلال في مهن أخرى. في بعض المرات، ترفض النساء أن نعرض البالونات على الأطفال ويحاولن الابتعاد عنا لأن بعضهن قد لا يملكن ثمنها. حينها أشعر بضيق، علماً أنني أعيد البالونات مرات كثيرة إلى المنزل، لأنّني لم أتمكن من بيعها".