بيلاروسيا وروسيا: الافتراق المستحيل

07 مارس 2019
لوكاشينكو وبوتين أثناء مباراة للهوكي بينهما (سيرغي شيريكوف/فرانس برس)
+ الخط -


بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وتفككه إلى 15 دولة، حافظ البعض منها على علاقة وثيقة مع وريثة الاتحاد روسيا. من هذه الدول كانت بيلاروسيا، بقيادة ألكسندر لوكاشينكو، التي اختارت، ولموقعها الوسطي في أوروبا، بين شرقٍ يتداعى وغرب ينمو، البقاء في الظلال الروسية. مع ذلك، كان لا بدّ، في مكان ما، أن يؤدي تضارب المصالح النفطية إلى صدام بين البلدين، على الرغم من وفرة الاتفاقيات الموقّعة بينهما، خصوصاً في الشق العسكري. كما تربط البلدين معاهدة اتحاد تعود لديسمبر/ كانون الأول 1999، ودخلت حيز التنفيذ في 26 يناير/ كانون الثاني 2000. تنصّ المعاهدة على: "يتبنّى اتحاد روسيا وبيلاروسيا سياسات خارجية وأمنية ودفاعية واحدة، وله ميزانية مشتركة، وسياسة مالية ائتمانية وضريبية موحدة، وتعرفة جمركية موحدة، ومنظومتا طاقة واتصالات ومواصلات واحدة. وتحتفظ كل من بيلاروسيا وروسيا ضمن الاتحاد بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها وعلمها وشعارها".

للتضارب في المصالح بين موسكو ومينسك خلفيات عدة، تاريخية وحالية. بالنسبة إلى روسيا، فإنها وبسلوكياتها "السوفييتية" تعتبر حكماً أن بيلاروسيا هي جزء منها، خصوصاً أنه حتى وقتٍ قريب، أي في منتصف شهر فبراير/ شباط الماضي، كان لوكاشينكو يؤكد، ومن موسكو، على مسمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه "نحن مستعدون للسير قدماً على طريق الوحدة وتوحيد جهودنا ودمج البلدين والشعبين، بقدر الاستعداد الذي يبديه الشعبان. لو كان الأمر بيدينا، لأعلنّا عن الاتحاد غداً. لا توجد لدينا أي مشكلة في ذلك". كلام جميل، يُراد منه معالجة الخلاف الأكبر بين البلدين، والمتمحور حول "المناورة الضريبية للقطاع النفطي في روسيا". وبحسب مينسك، فإن "بيلاروسيا ستخسر خلال 4 سنوات نحو 11 مليار دولار بسبب هذه المناورة، والتي تنصّ على تخفيض رسوم تصدير النفط الروسي الخام من 30 في المائة حالياً حتى الصفر بحلول عام 2024، مقابل رفع ضريبة الإنتاج (استخراج ومعالجة النفط وغيره من مواد خام)".

لم ينجح لوكاشينكو في كسب ودّ بوتين، وهو ما دفعه إلى رفع مواقفه بصورة تصاعدية. فاستبعد في مطلع الشهر الحالي "احتمال ضمّ روسيا لبلاده"، مع تأكيده أن "البيلاروسيين يريدون أن يكونوا مع روسيا، لكنهم يريدون العيش في شقتهم الخاصة"، وذلك على عكس ما تمنّاه بوتين حين قال إنه "ينبغي على البلدين أن يندمجا أكثر حتى تتمكن بيلاروسيا من الحصول على أسعار مخفضة للغاز الطبيعي الروسي والموارد الأخرى".



ومع تراكم الخلافات بين موسكو ومينسك، خرج لوكاشينكو بتصريحٍ جدلي، يوم الثلاثاء، قال فيه إن بلاده "تتوق إلى إقامة علاقات أفضل مع حلف شمال الأطلسي"، مضيفاً خلال جلسة حكومية، أن "السعي لإقامة علاقات مع الأطلسي على أساس الاحترام المتبادل، من شأنه أن يساعد في تعزيز أمن بلادنا". كما شكا أيضاً من أن محاولات بلاده للتقارب مع الغرب "تتسبب في بعض الأحيان في نوبات غضب في روسيا، لأنها تخشى أن تكون بيلاروسيا قد غيّرت اتجاهها إلى مكان آخر". ولفت إلى أنه "نحن في وضع يتعين علينا فيه تغيير اتجاهنا طوال الوقت، لأننا نقع في وسط أوروبا". 

اندفاعة لوكاشينكو قد تسيل لعاب كثر في الغرب، خصوصاً أن موقع بيلاروسيا المتاخم لبولندا وأوكرانيا، يسمح بدقّ إسفين في القلب الروسي، فلا يعود أمام الغرب سوى 500 كيلومتر للوصول إلى موسكو أو سان بطرسبرغ من بيلاروسيا، كما يُعزل جيب كالينينغراد الروسي بالكامل عن باقي روسيا، مع تحوّل الدول المجاورة إلى خصومٍ للروس. كما أن بوسع الغرب الاقتراب أكثر من أوكرانيا، تحديداً كييف، غير البعيدة عن الحدود البيلاروسية ـ الأوكرانية. على الورق يمكن الحديث عن "الكثير" من المنافع للغرب في حال استمالة بيلاروسيا، وسحب توصيف لوكاشينكو بـ"الديكتاتور الأخير في أوروبا" من التداول. حتى أنه يُمكن ضمّ بيلاروسيا إلى المسار الأميركي للغاز الصخري، الذي بدأ يصل إلى ليتوانيا في البلطيق. لكن، هل يمكن تحقيق هذا الأمر؟

في الواقع، إن دَرْسَي جورجيا (2008)، وأوكرانيا (2014)، كفيلان بمنع التفكير بانضمام بيلاروسيا إلى الغرب. بداية، من يمكنه نسيان موقف الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، وهو "يناشد الغرب" مساعدته ضد الغزو الروسي لبلاده، ولم يتحرّك أحد؟ من يمكنه نسيان ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، من دون بروز ردّ فعلٍ حقيقي من الغرب؟ عليه، لا يمكن للوكاشينكو الجنوح كثيراً إلى هذا الحدّ، وربما إن ما يقوم به يُمكن إدراجه في سياق "استفزاز" بوتين، وجعله يخضع لشروطه النفطية، تحت سقف "الاتحاد الأوراسي".

كما أن بوتين لن يسمح إطلاقاً في تحوّل بيلاروسيا إلى وتدٍ في خاصرة روسيا، مع وجود مركزين عسكريين روسيين في بيلاروسيا، وفقاً لاتفاقية موقّعة بين البلدين عام 1995. وتتضمّن الاتفاقية، التي دخلت حيّز التنفيذ عام 1996، استخدام مركز الاتصال "بارانوفيتشي" لنظام الإنذار للهجمات الصاروخية، واستخدام محطة الاتصالات "فيليكا". ويبقى الاتفاقان ساريان لمدة 25 عاماً ويجوز تجديدهما بموافقة خطية من الطرفين. ومن المفترض أن تنتهي الاتفاقية في عام 2021، غير أن وزير الدفاع البيلاروسي أندري رافكوف، أعلن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن "موسكو لم توجه نداء رسمياً إلى مينسك بشأن تمديد شروط الإيجار للمرافق العسكرية في بيلاروسيا"، مرجّحاً أن تحل هذه القضية في العام الحالي.

ومع أن لوكاشينكو اعتاد على توجيه الانتقادات لبوتين، إلا أن حديثه في ديسمبر الماضي كان أقسى من قبل، فخلال الجلسة الافتتاحية لقمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، اعترض الرئيس البيلاروسي بلهجة حادة، وبحضور وسائل الإعلام، على "أسعار الغاز المرتفعة جداً" لبلاده، وقال مخاطباً بوتين: "لدينا شروط (في مجال الغاز) أسوأ من المتوفرة لألمانيا"، إلا أن الرئيس الروسي، الذي بدا عليه الاستياء مما سمعه، سارع للرد وأكد أن "هذا كلام غير صحيح، تدفع مينسك 129 دولاراً، بينما تدفع برلين 250 دولاراً عن كل ألف متر مكعب من الغاز".