مرة ثانية خلال سنة، ينقذ الجمهوريون الرئيس السابق دونالد ترامب من الإدانة في مجلس الشيوخ. تبرئته كانت متوقعة، لأن الكلمة في مثل هذه المحاكمات للسياسة، وليست للقانون. مع ذلك، جاءت صادمة. فالحكم على المهندس والمحرّض لمحاولة انقلاب 6 يناير/كانون الثاني بأنه "غير مذنب"، كان من الصعب قبوله، ولو أنه دستوري. دور الرئيس السابق في التخطيط للهجوم وتوجيهه وتحريكه كان واضحاً كشمس النهار، وباعتراف واسع شمل العديد من الجمهوريين. زعيمهم في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل حمّله "عملياً وأخلاقياً" مسؤولية الحدث، وشجع في خطاب له بعد صدور الحكم، على وجوب ملاحقته الآن كمواطن عادي أمام القضاء بهذه الجريمة.
لكن في المقابل، كانت المحاكمة واعدة عموماً من الناحية السياسية، ولأكثر من طرف. كشفت عن الكثير من ملابسات العملية، بما زاد من النفور العام من ترامب كما بيّنته أرقام الاستطلاعات، ووفّرت للرئيس جو بايدن مقبولية أفضل للدفع بأجندته الداخلية، والأهم أنها أدّت إلى قطع شعرة معاوية بين الحزب الجمهوري وترامب، وإعلان الأول بلسان السيناتور ماكونيل، الحرب على الثاني.
وطرح إقفال ملف المحاكمة 3 أسئلة: ما تبعات مرور اجتياح الكونغرس من دون ثمن، وكيف يبدو مستقبل ترامب والترامبية، وكذا مستقبل الحزب الجمهوري؟
والخشية التي تتردّد، أن عدم محاسبة المسؤول عن انتهاك بهذا الحجم والمدى، قد يؤدي إلى تأسيس سابقة تشجع على التمادي في تعزيز النزعة السلطوية المتفردة التي زرع بذورها ترامب، والتي "كادت أن تطيح الديمقراطية الأميركية"، كما قال المؤرخ الرئاسي مايكل باشلوس. وهذا موضوع متداول منذ فترة بلغة التحذير من ملامح "فاشية" تطل برأسها إلى الساحة الأميركية. كتابات وأصوات وتنبيهات عديدة تناولت هذا الموضوع قبل المحاكمة، وكأنها كانت تتوقع ما حصل. وأتى اجتياح الكونغرس ليعزز هذا التخوف، ويزيد من الشكوك في قدرة المؤسسات والأجهزة على ضمان حكم القانون، ناهيك بحماية نفسها، خصوصاً بعد أن تكشّف وجود اختراقات وانحيازات مزمنة وحديثة في صفوف القوى الأمنية، وحتى القوات العسكرية، لمصلحة العنصريين البيض.
ويذكر أن رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، أعطى أخيراً القطاعات العسكرية كافة مهلة ستين يوماً "لتنقية" صفوفها من مثل هذه العناصر. ومن هنا، تخوّف البعض من أن يحمل حكم البراءة هذه الفئات على التجرؤ وتكرار التعدّي على القانون والمؤسسات التي ما زالت مطوقة بحزامات أمنية – عسكرية، وكأنها لا تستبعد حصول عمليات عنف مهما كانت احتمالاتها ضئيلة.
وما يجعل مثل هذه الإمكانية واردة، أن ترامب بعد مغادرة البيت الأبيض واصل الحديث بلغة العائد قريباً إلى الساحة السياسية. ظله لم يبارحها بعد. وثمة من لا يخفي هواجسه من احتمال رجوعه إليها، ولا سيما أنه لم ينقطع عن قواعده الموالية بصورة قاطعة له، إلّا عبر "تويتر" المقطوع عنه قسراً. في رسائله لها عبر بياناته، يشدد على أن مسيرته "ما زالت في بداياتها". واستخدم هذا الخطاب كورقة قوية بيده وفّرت له في أثناء محاكمته التحكم بفريق واسع من الجمهوريين في الكونغرس الذين يجاهر بعضهم بأن "ترامب هو الحزب"، كما تقول السيناتور ليندسي غراهام، وإن كان كلامه لا يعكس الحقيقة. فالحزب كمؤسسة لم يعد حزب الفرد صاغراً له كما كان طوال الأربع سنوات الماضية.
يوم السبت في المحاكمة، صوّت 7 جمهوريين (%15 من عددهم في مجلس الشيوخ) ضده. ويبدو أن المتمسكين به منهم لا يراهنون على عودته بقدر ما يتسابقون على وراثته وكسب تأييد قاعدته في الانتخابات القادمة، خصوصاً انتخابات الرئاسة في 2024. فالرئيس السابق خسر الكثير من حضوره ونفوذه بخسارته لموقعه، خصوصاً بعد محاولاته المفضوحة في أعقاب الانتخابات للبقاء في الحكم بأي طريقة، ولو بكسر القانون واستباحة المؤسسات. ثم بالإضافة إلى ذلك، ترامب قادم على منازعات قانونية جزائية ومدنية في محاكم ولايات نيويورك وجورجيا والعاصمة واشنطن، بتهم تتعلق بغسل أموال وتهرّب من دفع الضرائب وإساءة استعمال السلطة. وهذه، بالإضافة إلى محاكمتين في الكونغرس، كفيلة باستنزاف سمعته ورصيده السياسي، وبما قد يحول دون قدرته على تحقيق أي طموح سياسي في المستقبل. وبضمور حضوره السلطوي المتفرد، من المتوقع أن تنحسر الترامبية، وقد تتلاشى كرمز لتيار سابق، بوجوده لترامب، وباقٍ بعده بحكم عمق جذوره، وربما تحول إلى تحدٍّ أخطر بعد تجربته الترامبية.
أما الحزب الجمهوري، فقد خرج من تبعيته لترامب، خصوصاً منذ حدث الكونغرس وحتى المحاكمة، شبه مشلّع ومفتوحاً مستقبله على المزيد من التمزق. ما كان بمقدوره كسب الحكم لولا شرط الدستور بتوافر الثلثين (67 صوتاً) لإدانة الرئيس. الآن انقسم بلا رجعة على الأرجح إلى جناحين: الحزب - المؤسسة، والحزب الشعبوي، وليس صدفة أن معظم رموز هذا الأخير هم من الطامحين إلى الترشّح للرئاسة في 2024، والحرصاء على مغازلة جمهور ترامب من خلال الالتصاق بهذا الأخير، مثل السيناتور تيد كروز والسيناتور ماركو روبيو ووزير الخارجية السابق مايك بومبيو وغيرهم. أما الأول، فقد التفّت حوله القيادات التي شغلت أو تشغل مواقع بارزة في الإدارة والكونغرس وحتى في القطاع الخاص، التي تشكّل المصدر الرئيسي لتمويل انتخابات الجمهوريين. معادلة تخدم إلى حدّ ما بايدن، ولغاية تبلور الصيغة التي سيرسو عليها خصمه الجمهوري.