تواصلت الإدارة المباشرة لهذا الطبيب معه، ونصحته بالتوجه إلى مستشفى حميات العباسية، الأكبر على مستوى الجمهورية، لإعادة التحليل الذي أجراه على نفقته في أحد المعامل الخاصة، وتلقي العلاج. لكن الطبيب رفض، قائلاً "أنا عارف اللي بيحصل في مستشفيات الحميات جيداً، تحدثت مع صديق لي هناك، وهو من نصحني بعدم الحضور، فهناك نقص في كل شيء تقريباً، فعدا الأدوية، الواقيات الطبية غير موجودة، وبمجرد ذهابي سأضع نفسي في طابور طويل من الحالات، جميعها تنتظر الإذن للانتقال إلى مستشفيات العزل، سواء في مدينة قها في القليوبية أو 15 مايو في القاهرة". ويتابع أن "تعليمات الإدارة الشفهية للأطباء والتمريض كانت واضحة تماماً، فالمصاب أو من تظهر عليه أعراض، لا يحضر، ولا حتى يُبلغ على نطاق واسع".
يعزو الطبيب تلك التعليمات إلى "وجود رغبة رسمية أولاً في تقليل عدد الإصابات المسجلة، خصوصاً بين فرق الأطباء والممرضين، وثانياً بحجة عدم إحداث ذعر بين المرضى والأطباء الآخرين، فيتوقف العمل". ويلفت الطبيب إلى أن "القصر العيني والمستشفيات الجامعية غير مسموح بتوقفها حالياً، لا سيما في ظلّ تقليص عدد مستشفيات وزارة الصحة التي لا تزال في الخدمة، بعد إلغاء العيادات الخارجية بشكل عام، وقصر الاعتماد في الاستقبال اليومي على المستشفيات المتخصصة والمراكز والوحدات الصحية".
وبحسب الطبيب، أرسل له صديقه في الحميات بروتوكول العلاج المحدّث من وزارة الصحة، راجياً عدم الإهمال وعدم التردد في الحضور إذا ساءت الأوضاع. "الأدوية المستخدمة ليست غريبة عن الاستخدام المعتاد في حالات العدوى الفيروسية الأخرى، ومعظمها منخفضة التكلفة، ومتواجدة بكثافة في الصيدليات، على الرغم من ارتفاع أسعار بعضها، كدواء الملاريا، بعدما أُشيع للعامة أنه يستخدم لتحسين مناعة المصابين"، بحسب المصدر. ويوضح أن "البروتوكول لا يحتوي علاجات غير معتادة أو مفاجئة، عكس ما تشيع بعض الصفحات الموجهة على مواقع التواصل الاجتماعي، لمحاولة بثّ أجواء تفاؤل في الشارع المصري تجاه إدارة الدولة للأزمة".
ويوضح الطبيب أنه يعرف حوالي ستة أطباء آخرين من قصر العيني ومعهد الأورام ومستشفى الطلبة، وكلها تابعة لجامعة القاهرة، حلّلوا على نفقتهم وعزلوا أنفسهم، ولم يتم تسجيلهم - شأنه - كمصابين في سجلات وزارة الصحة، لأن المستشفيات كانت ترفض التحليل لهم على نفقتها دون التوجه لمستشفى الحميات، أو لأن بعضهم آثر السلامة الشخصية والابتعاد.
الأخطر من ذلك، بحسب الطبيب، امتداد هذا التسرب إلى الممرضين، وكذلك المواطنين. ويقول: "العاملون بالتمريض يكونون أكثر خشية في التوجه للمستشفيات من الأطباء، لأن شعورهم دائماً بالغبن والإهمال من قبل الإدارات، ومعرفتهم الجيدة بعيوب النظام الطبي وقصور المتابعة، يجعلانهم يفضلون عدم العلاج بالمستشفيات، وهذا حاصل حالياً لكثيرين منهم، خصوصاً من الممرضين المصابين بمعهد الأورام". ويلفت الطبيب إلى أن "الممرضين بدأوا يشيعون ذلك في أوساط المواطنين، خصوصاً القادرين منهم على استئجار ممرض ومعدات للعلاج المنزلي بعيداً عن المنظومة الصحية، وهذه الظاهرة بادئة في الانتشار، لا سيما في المناطق ذات المستوى الاقتصادي المرتفع في القاهرة، والتي تقطنها عائلات كانت دائمة السفر والتردد على المطارات بحكم الأعمال، ومنهم رجال أعمال مشهورون وأسرهم".
أزمة الثقة في المنظومة الصحية، سواء لدى العاملين بها أو المواطنين، لها ما يبررها. فالأيام الأخيرة، لا سيما منذ واقعة اكتشاف إصابات داخل معهد الأورام والتغاضي عنها أياماً عدة قبل إعلانها، أثبتت أن هناك فرقاً شاسعاً بين التعليمات التي تصدر من الوزارة بشكل مركزي وتحريري، والتعليمات الشفهية التي تطبق على أرض الواقع من مديري الإدارات والمستشفيات التابعين إدارياً للوزارة، وفي الوقت نفسه تمارس دواوين المحافظات سلطتها عليهم، وتصل أحيانا إلى حدّ إصدار تعليمات مناقضة لتعليمات الصحة، أو التغاضي عنها.
على الورق، ووفقاً للتعميمات الرسمية الصادرة عن الوزارة، يجب على إدارة كل مستشفى إجراء كشفٍ يومي صباحي بقياس درجة الحرارة على كل الأطباء والممرضين والإداريين للتأكد من سلامتهم، وأخذ مسحة الحلق وإجراء تحليل عاجل حال الاشتباه، فضلاً عن ضرورة ارتداء الواقيات والتعامل الحذر مع المرضى، إلا أن هذا لا يحدث أبداً في معظم المستشفيات.
بل إن وكلاء الوزارة في المديريات الصحية المختلفة، أصدروا تعليمات بأن يكون تعامل الأطباء في المستشفيات مع الحالات على مسؤوليتهم الشخصية، بحيث يتم ارتداء الواقيات "الخاصة بهم"، مع عدم إجراء تحاليل لهم حتى إذا كانوا مخالطين لحالة كورونا إيجابية، إلا بعد ظهور الأعراض عليهم، شأنهم في ذلك شأن المخالطين الآخرين، الذين ما زالت وزارة الصحة ترفض إجراء تحاليل عامة أو عشوائية لهم في كل حالة، خلافاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية، وذلك بحجة ارتفاع سعر التحليل.
ويتكلف التحليل الواحد في الأحوال العادية لدى المعامل المركزية للوزارة مبلغ 1050 جنيهاً (حوالي 65 دولاراً)، ويجرى بسعر بلغ الضعف تقريباً في المعامل الخاصة بعد الأزمة، لكنه يجرى بالمجان للمشتبه فيهم داخل المستشفيات، وبنظام بيروقراطي صارم يضمن حداً أقصى لعدد التحاليل المجراة يومياً في كل مستشفى، حسب قدرة الاستيعاب الخاصة بها وبمستشفى العزل القريبة منها. هذا الأمر تعتبره مصادر في وزارة الصحة من أسباب السيطرة على أعداد الإصابة المعلنة يومياً حتى الآن، والتي كان أقصاها 149 حالة يوم الإثنين الماضي، على الرغم من أن المصادر نفسها تتحدث عن استقبال المستشفيات على مستوى الجمهورية يومي الأحد والإثنين الماضيين أكثر من 500 حالة اشتباه مرجح الإصابة بالنظر لفحوصات الأشعة التي تجرى على المشتبه فيهم بعد دخولهم مباشرة، والتي تثبت في المعتاد لدى حالات الإصابة التهابا رئوياً مضاعفاً أو فشلاً رئوياً، حسب مرحلة القدوم.
ومن الأمور الأخرى التي تختلف في الواقع عن تعليمات الصحة أيضاً، قواعد السيطرة على حالات الاشتباه. فوفقاً للمنشور المعمم على المستشفيات نهاية الشهر الماضي، يحظر خروج المشتبه فيهم إلا بعد ظهور نتيجة التحليل، والذي يستغرق في العادة من أربع إلى ست ساعات، لكن الحقيقة هي أن المستشفيات تترك حالات الاشتباه للمغادرة - ومن ثم الاختلاط بآخرين- ثم يتم إبلاغهم بالنتائج لاحقاً، خصوصاً في المحافظات الصغيرة التي يمكن الوصول بسهولة لمستشفياتها حسب تقدير المسؤولين.
وبدأت إدارات المستشفيات أخيراً فقط، بعد تفجر أزمة معهد الأورام، التحليل على نفقتها للأطباء والممرضين المخالطين للحالات المصابة، وتم ذلك في معهد الأورام في فروع عدة، وقصر العيني، ومستشفى الخانكة للصحة النفسية، ومستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس، وعدد من المستشفيات الإقليمية التي ظهرت فيها حالات بين الفرق الطبية أيضاً.
وارتفع عدد المصابين المسجلين من الفرق الطبية هذا الأسبوع إلى أكثر من 170 طبيباً وممرضاً، بعد اكتشاف عدد كبير من الحالات في اليومين الماضيين في مستشفى صدر دكرنس، والذي سجل وحده حتى الآن 23 حالة، وحالة في معهد القلب القومي، وحالة في مستشفى مبرة المنيرة، و23 حالة في مستشفى الزيتون العام. فيما تتحدث مصادر طبية وبعض أعضاء مجلس نقابة الأطباء العامة عن أعداد أكبر، فضّلت، كما فعل الطبيب الذي تحدث لـ"العربي الجديد" وزملاؤه، العزل المنزلي، وكما فعل قبلهم طبيب بورسعيد المتوفي أحمد اللواح.
وسبق أن قالت مصادر في وزارة الصحة لـ"العربي الجديد"، إن مصر دخلت فعلياً مرحلة من "الانتشار غير المدار للمرض" قبل أن يتم الجزم بدخول مصر مرحلة التفشي التي تعيشها دول عديدة في العالم، أبرزها إيطاليا، الأمر الذي يدفع المسؤولين الذين يحاولون إخفاء تلك المعلومة - وكذلك المصادر- لتأكيد صعوبة وحسم الفترة الراهنة. ويأتي ذلك لا سيما مع استمرار الأنشطة الاقتصادية وعدم تنفيذ حظر التجول بشكل حاسم في العديد من المناطق، وانتشار ظاهرة إخفاء الإصابات وعدم الإبلاغ عنها خاصة في الأقاليم، والتعامل مع المرض باعتباره وصمة اجتماعية، وانخفاض مصداقية الحكومة بالنسبة للمواطنين وفشل الحملات التوعوية بخطورة المرض.