تونس: هل تصدق نوايا استكمال المحكمة الدستورية؟

12 مارس 2020
أعلن الغنوشي انطلاق مسار إرساء المحكمة الدستورية(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
عادت قضية المحكمة الدستورية لتطفو مجدداً على سطح أولويات البرلمان التونسي، بعد تأخير خمس سنوات على الأجل الدستوري المحدد لتعيين كامل أعضائها. وانطلقت فعلياً إجراءات تقديم الكتل النيابية مرشحين لعضوية المحكمة الدستورية، في ظلّ حرص مريب على الانتهاء من هذا المسار في أقرب وقت ممكن، يخفي وراءه حلقة جديدة من الصراع بين رئيس البرلمان راشد الغنوشي، ورئيس الجمهورية قيس سعيّد.

وكان الغنوشي قد أعلن بالتزامن مع جلسة منح الثقة لحكومة إلياس الفخفاخ في 27 فبراير/شباط الماضي، انطلاق مسار إرساء المحكمة من جديد والتعجيل بانتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين فيها. وانطلقت عملية قبول ترشيحات الكتل النيابية لعضوية المحكمة بداية شهر مارس/آذار الحالي، وتنتهي في التاسع عشر من الشهر ذاته. وحدد مكتب المجلس موعد أول جلسة عامة بعد استكمال عملية فرز الترشيحات في الثامن من إبريل/نيسان المقبل.

وإن كان استكمال انتخاب أعضائها أمراً غاية في الأهمية، فإنّ السياق الذي دفع رئيس حركة "النهضة" للحث على تركيز المحكمة، يطرح تساؤلات عدة. ولولا الصراع الحاصل بين البرلمان ورئاسة الجمهورية الذي حمي وطيسه خلال مرحلة المشاورات الحكومية، لما كان للمحكمة الدستورية أن تعود من بين أولويات البرلمان مجدداً. إذ كانت مواقف الرئيس قيس سعيّد من تصريحات قيادات "النهضة" عن إمكانية إسقاط حكومة الفخفاخ، واستئثاره بصلاحية تأويل الدستور في ظلّ غياب المحكمة الدستورية، نقطة تحوّل في علاقة البرلمان بهذه المؤسسة، لتكون حلقة جديدة من حلقات الصراع.

بدا جلياً أنّ "النهضة" لم تقبل بإحباط السيناريوهات التي وضعتها وإعادتها للزاوية؛ فإمّا موافقتها على حكومة الفخفاخ أو حلّ البرلمان، لذلك سعت إلى سحب صلاحية تأويل الدستور من سعيّد، لتعيده بذلك إلى زاوية الرئيس محدود الصلاحيات وكذلك هامش الفعل السياسي.

وفي هذا السياق، قال الناطق الرسمي باسم حركة "النهضة"، والنائب عنها، عماد الخميري، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الجدل الذي حصل خلال الأيام الماضية في ما يتعلّق ببعض التأويلات للدستور، يعود بالنواب إلى ضرورة إرساء المحكمة الدستورية، وذلك حماية للانتقال الديمقراطي وللديمقراطية في البلاد من كل دفع نحو المناطق الرمادية، حيث لا وجود لجهة موكول لها تأويل الدستور".

وأضاف الخميري أنّ "عملية إرساء المحكمة الدستورية ليست بالعملية الهينة، وإنما تتطلب روحاً وطنيةً عاليةً، وتنسيقاً وقناعةً لدى أعضاء البرلمان بأنّ التجاذبات حول الأسماء ومدى قربهم أو بعدهم عن الأطراف السياسية، لا قيمة لها أمام غياب هذه المؤسسة". ولفت إلى أنّ "البرلمان أخفق في سبع دورات انتخابية متتالية، على امتداد العهدة النيابية المنقضية، في إرساء المحكمة الدستورية، نتيجة تنكّر الكتل النيابية ومن بينها النهضة، لتوافقاتها، أو تعثّر التوافق أصلاً على مرشحين بسبب قربهم الأيديولوجي من أطراف سياسية".

وينصّ الدستور التونسي على أن يتم إرساء المحكمة في أجل أقصاه سنة بعد المصادقة على الدستور، وتتكون من اثني عشر عضواً؛ ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون، ويتم انتخاب أربعة منهم من قبل البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه، وأربعة من قبل المجلس الأعلى للقضاء، وأربعة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية.

واعتبر الخميري فشل البرلمان المنتهية عهدته في انتخاب ثلاثة أعضاء "أكبر إخفاق له"، إذ لم يتمكن طيلة سبع دورات انتخابية، إلا من انتخاب العضو روضة الورسيغني بمائة وخمسين صوتاً، فيما أخفقت الدورة الأخيرة التي أجريت في شهر يوليو/تموز الماضي على وقع الوعكة الصحية الحادة التي تعرّض لها رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، وفي ظلّ جدل حول السلطة المخوّل لها معاينة الشغور الحاصل في هذا المنصب، في الوصول إلى نتيجة إيجابية.

وعلى الرغم من توالي المآزق الدستورية، فإنّ ذلك لم يدفع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان إلى التوافق على الأسماء، فيما بدت الآن الظروف مختلفة، على وقع الصراع بين رئيسي الجمهورية والبرلمان.

من جانبه، اعتبر القيادي في حركة "النهضة"، ماهر مذيوب، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ توجه الغنوشي نحو الحثّ على استكمال إرساء هذه المؤسسة "يأتي في سياق فلسفة عامة، تتمثل في التزامه بتركيز المحكمة حمايةً للدستور، وكذلك التزامه بمرافقة الإصلاحات الكبرى والمصالحة الوطنية الشاملة لبناء مستقبل جديد على أساس طي صفحة الماضي، وهي ركائز توجهاته خلال فترة توليه لرئاسة البرلمان والتي أعلن عنها منذ افتتاح عهدته".

وتواجه هذه التبريرات تحفظات عدة من قبل بقية الكتل النيابية، لا سيما وأنّ "النهضة" كانت الكتلة الثانية في البرلمان المنتهية عهدته، وتحكم في إطار توافق مع حركة "نداء تونس"، التي كانت الكتلة الأولى آنذاك، بحاصل مقاعد للكتلتين يفوق ثلثي نواب البرلمان، أي يتسنى لها بسهولة توفير الأصوات اللازمة لاستكمال انتخاب أعضاء المحكمة.

وفي هذا الإطار، قال القيادي في "حركة الشعب"، هيكل المكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "السؤال الذي يوجه للنهضة هو: لماذا لم تحرص طيلة السنوات الماضية على إرساء المحكمة في حين أنها كانت وشريكها في الحكم قادرة على تركيز كل المؤسسات الدستورية". ونبه المكي في الوقت نفسه من "التسرّع وتوظيف هذه المسألة في معركة سياسية بين الغنوشي وسعيّد"، واصفاً ذلك بـ"التسرّع الخاطئ". وأضاف المتحدث نفسه أنّ "رئيس الجمهورية هو مالك الحقيقة الدستورية في غياب وجود المحكمة"، داعياً إلى "إرساء هذه المؤسسة بروح أخرى، يخفت فيها صوت المناكفات السياسية".

وبمنأى عن "الصدام الخفي" بين رئيس البرلمان ورئيس الجمهورية، دعت كتل نيابية أخرى إلى اقتناص لحظة عزم "النهضة" على استكمال تركيز المحكمة الدستورية، مهما كانت غاياتها. وفي هذا السياق، شدد القيادي في حزب "تحيا تونس"، مروان الفلفال، في حديث مع "العربي الجديد"، على أنّ الأهم هو "إرساء هذه المؤسسة من باب استكمال البناء الديمقراطي، وتوفير ضمانات الديمقراطية، بصرف النظر عن أجندات بعض الأطراف وغاياتها". ولفت إلى أنه "على الساحة السياسية الترفع عن المناكفات والخلافات المفرغة من أي فائدة للتونسيين، والمرور إلى مرحلة من الاستقرار السياسي حتى تخرج البلاد من الأزمة".

المساهمون