سكان "حوش النيرسات" المقدسي يقاومون محاولات التهجير

القدس المحتلة

محمد محسن

محمد محسن
28 يناير 2020
1BA3E5E7-18CD-4A9E-851A-1ECE3CF3AEE8
+ الخط -
لم تكن المقدسية أم عمر السلايمة تتوقع أن يأتي يومٌ تضطر فيه إلى مغادرة منزلها، الذي لم تفارقه منذ أكثر من 65 عاماً. لكن كحال كلّ المقدسيين الواقعين تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي، يقاوم أهالي "حوش النيرسات" محاولات تهجيرهم. هذا الحوش، الواقع في حيّ السلسلة المتاخم للمسجد الأقصى في القدس المحتلة، نشأت أم عمر وترعرعت فيه، لتبلغ أعوامها الـ80، من دون أن تضطر يوماً إلى مغادرة منزلها، إلى أن جاءها مهندسون من بلدية الاحتلال في القدس، وسلّموها بلاغاً يطلب منها إخلاء المنزل الذي بينه وبين الأقصى عشرات قليلة من الأمتار، وذلك بذريعة أنه مهددٌ بالانهيار، وإلا عل المُسّنة المقدسية أن تقوم بنفسها بترميمه.

انتقام بحجة الترميم
لم تلق أم عمر آذاناً صاغية حين طلبت من بلدية الاحتلال ترميم منزلها، كون هذه البلدية هي المسؤولة مع شركة المياه الإسرائيلية المعروفة بـ"جيحون"، عن تصدعاته والأضرار التي لحقت به وكذلك بمنازل نحو 20 عائلة أخرى تقطن الحوش. رفض المهندسون الإسرائيليون أن تتحمل بلدية الاحتلال نفقات الترميم، محذرين صاحبة الدار من غرامةٍ مالية مقدارها ثلاثة آلاف و600 شيقل (ما يعادل ألف دولار)، ستفرض عليها إذا لم تخل منزلها في غضون شهرٍ واحد، على أن تفرض على أم عمر غرامة تأخير أخرى، بواقع 160 شيقلاً (نحو 45 دولاراً) عن كل يوم إضافي تمتنع فيه عن الإخلاء.

وتؤكد أم عمر، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، قرارها بعدم الامتثال لقرار بلدية الاحتلال "حتى لو انهار المنزل فوق رأسي". لا تملك المقدسية ونجلها الذي يشاطرها المنزل مع أطفاله، أي مكان آخر يلجأون إليه. عن منزلها في "حوش النيرسات" الذي الذي يزيد عدد قاطنيه عن 250 نسمة، تقول أم عمر: "هنا ولدنا، وفي بيتنا نموت، لن نخرج، ومن يتحمل خراب المنزل هي بلدية الاحتلال، الواجب عليها إصلاحه".

الحفريات تضرب
في جولةٍ لـ"العربي الجديد" في غرف المنزل، تسهل ملاحظة آثار التشققات والتصدعات وتسرب المياه إلى بعضها. حتى تلك التي رممتها أم عمر قبل سنوات قليلة، عادت لتتشقق بفعل الحفريات الإسرائيلية المستمرة، ما اضطر العائلة إلى وضع دِلاء خارج الغرف لتستوعب مياه الأمطار، خصوصاً تلك التي هطلت بغزارة خلال الأيام الماضية.

الأمر ذاته ينطبق على منزلي الشقيقين وجدي وعدلي السلايمة، وهما من سكان "الحوش". الحفريات ضربت جدران منزل الأول، ما أصابه بأضرار جسيمة، على الرغم أيضاً من أن صاحبه كان قد أخضعه للترميم منذ فترة ليست ببعيدة. لكن عمق الحفريات وتشعبها في أكثر من اتجاه أصاب العصب الرئيسي للعقار، ولعقارات أخرى تقطنها عائلات مقدسية مختلفة، منها عائلتا السلايمة وسليمي.

الشقيق الأصغر لوجدي، عدلي، كفيف، ومقيمٌ في غرفة صغيرة ضيّقة في العقار نفسه. تلك الغرفة أصابها من الضرر ما أصاب منزل الشقيق الأكبر. وتلقى الرجلان معاً إخطاراً من بلدية الاحتلال في القدس ينذرهما بالإخلاء، وأيضاً تحت طائلة الغرامة المالية، مع تنصل الاحتلال من مسؤوليته عن الضرر.

سحر مقدسي
كما أم عمر وابنها، يرفض الشقيقان السلايمة إخلاء مسكنهما، فلا مكان سواه يلجآن إليه. في الطابق الثاني من المنزل، يظهر حجم الضرر الهائل الذي أصاب جميع غرفه. بعيداً عن هذه الأضرار، يحمل هذا الطابق مشهداً خاطفاً، إذ يطل سطحه مباشرة على المسجد الأقصى وقبّة الصخرة، ولا يعكره سوى مبنى مقابل احتله المستوطنون وشرعوا ببناء كنيس يهودي.


الأضرار أصابت غرف جميع المنازل في "حوش النيرسات" (العربي الجديد)

في جزء من المنزل، يقطن وجدي مع زوجته ووالدته، فيما يتخذ بعض أبنائه مساكن لهم في الطابق العلوي الذي ازدحم بالأثاث والمقتنيات. يؤكد وجدي لـ"العربي الجديد"، رفض العائلة مغادرة المنزل مهما كلف الأمر. ويضيف: "لقد عرضوا علينا الانتقال للإقامة في أحد الفنادق، وحين طالبناهم بترميم ما تسببوا بتصدعه وتشققه رفضوا، وقالوا رمموه أنتم، لكن بلدية الاحتلال وسلطة الآثار تمنعنا من الترميم، هم يريدون فقط إخلاءنا ليمكنوا المستوطنين لاحقاً من الاستيلاء والسيطرة على منازلنا".

لا يقايض وجدي منزله بـ"أموال الدنيا". يكفيه كما يقول، إقامته قرب الأقصى، والإطلالة عليه من سطح منزله الذي يرتفع أكثر من الأبنية المحيطة والقريبة.

إلى ذلك، لا يخفي وجدي السلايمة قلقه على جيرانه من عائلة سليمي. وخلال التجوال معه، أمكن رصد أرضية العقار، التي هبطت بفعل الحفريات، ومشاهدة زوايا وجدران معرضة للانهيار في أي لحظة ما لم يتم تدارك هذا الخطر بالترميم. هذا الأمر، تؤكده أيضاً سيدة من عائلة سليمي جالت مع "العربي الجديد" في ساحة منزلها وفي مرافقه المختلفة، حيث تنتشر التصدعات، لترسم ما يشبه الخارطة أو خيوطاً متشابكة.


محال تجارية مهددة
لا يقتصر الضرر في حوش النيرسات على المساكن التي تقطنها العائلات الـ20، بل يتعداها ليصل إلى أصحاب المحال التجارية في أسفل العقارات المتصدعة. هذه المحال تسربت المياه إلى داخلها، لتتلف ما تحوي من بضائع ومعدات وأجهزة، ما اضطر اثنين من أصحابها إلى إغلاق محليهما.

يقول المقدسيون إن التصدعات التي أصابت وتصيب عقارات البلدة القديمة من المدينة المحتلة تطاول المئات منها. بعضها ينجح أصحابها بترميمها، لكن البعض الآخر، وعددها كبير، يمنع قاطنوها من الترميم. هو منعٌ تفرضه بلدية الاحتلال وسلطة الآثار الإسرائيلية بحجة الحفاظ على الطابع الأثري والمعماري للعقارات المتضررة.

الكيل بمكيالين
ويتعرض المقدسيون لضغوط متواصلة لإخلاء منازلهم بحجج الانهيار وما إليها من أساليب الترهيب، الذي لا يهدف في الحقيقة سوى لتطبيق سياسة التهجير والتغيير الديمغرافي التي يعتمدها الاحتلال منذ قيام دولته المزعومة. هذا الاحتلال يمارس نهج الكيل بمكيالين، حينما يتعلق الأمر بالعقارات التي سلبها المستوطنون، إذ لا يسري منع الترميم على عشرات البؤر الاستيطانية في المدينة، التي تتواصل إقامتها منذ عقود. هذا ما يؤكده الباحث في شؤون العقارات، المربي هايل صندوقة، في حديث مع "العربي الجديد". ويستطرد صندوقة: "لقد شيدوا كنساً تطل في غالبيتها على المسجد الأقصى، وغيّروا كثيراً من الهياكل الداخلية للأبنية والعقارات التي أقاموا فيها، وباتت مساكن ومدارس تلمودية".

من دون أدنى شك، تقف بلدية الاحتلال في القدس مع المستوطنين، مانحةً إياهم التراخيص اللازمة، أكان للترميم أو لإضافة مبان جديدة، وسواء في عقبتي الخالدية والسرايا أو في شارعي الواد والسلسلة، وكذلك في الحي اليهودي الذي أُقيم على أنقاض حارة الشرف الفلسطينية التي طرد سكانها منها عشية احتلال القدس في العام 1967، وتمّ توطين نحو أربعة آلاف مستوطن فيها، معظمهم من يهود الولايات المتحدة، وفق صندوقة.

خشية من الإخلاء
وتعيد التصدعات الجديدة في عقارات حوش النيرسات إلى الأذهان ما حلّ بعقارات مشابهة في حي القرمي القريب من حي باب السلسلة، والذي يتصل بـ"الحوش".

في عامي 2012 و2013، أصيبت عقارات حي القرمي بتصدعات تسببت في حينه بتضرر أكثر من 25 عائلة، أرغمت بعضها على إخلاء منازلها، والتي لم تعد إليها إلا بعدما تمّ ترميمها، وبصعوبة بالغة، بفعل قيود بلدية الاحتلال وسلطة آثاره المفروضة على هذا النوع من الأعمال.

وتمتد أضرار حفريات الاستيطان إلى مناطق أخرى من باب السلسلة لا تبعد سوى 20 متراً عن الأقصى، كما هي الحال في حوش آل عسيلة، وفي صالون مسودة للحلاقة، الذي شرح لنا صاحبه الوضع المأساوي الناجم عن التصدعات في محله. ويقول صاحب المحل: "في الغالب نضطر إلى مواجهة هذه التصدعات بأعمال ترميم بسيطة، لكنها تعود مجدداً، لأن حفريات الاحتلال في أسفل عقاراتنا مستمرة".

104 حفريات منذ احتلال القدس
بدأت الحفريات في منطقة باب السلسلة في العام 2004. منذ ذلك الحين، توالى الكشف عن الأضرار التي لحقت بعقارات المقدسيين في المنطقة، حيث تتشعب تلك الحفريات شمالاً باتجاه باب العمود، وغرباً باتجاه باب الخليل، علماً أن الاحتلال أجرى أكثر من 104 حفريات في البلدة القديمة منذ احتلالها في العام 1967، بحسب ما يوضح الباحث المتخصص في شؤون القدس جمال عمرو، في حديثه لـ"العربي الجديد".

ووفق عمرو، لعّل أخطر تلك الحفريات ما يجري أسفل المسجد الأقصى، وعلى امتداد العقارات الواقعة في محيطه، ومنها مبان تاريخية كبيرة سجلّت فيها تصدعات خطيرة، بالإضافة إلى الحفريات واسعة النطاق التي تمتد من داخل أسوار البلدة القديمة إلى خارجها جنوباً في بلدة سلوان، حيث تتركز هناك حفريات ضخمة، أشهرها في منطقة عين سلوان التاريخية التي يسيطر عليها المستوطنون وتديرها الآن جمعية "العاد" الاستيطانية.

يؤكد وجدي السلايمة أنه لا يقايض منزله بـ"أموال الدنيا" (العربي الجديد)



 

ذات صلة

الصورة
متظاهرون أمام الفندق يحملون لافتات تقول "فلسطين ليست للبيع" (العربي الجديد)

سياسة

تظاهر ناشطون أمام فندق "هيلتون دبل تري" في مدينة بايكسفيل بولاية ماريلاند الأميركية الذي استضاف مزاداً لبيع مساكن أقيمت على الأراضي الفلسطينية المسروقة
الصورة
كثيراً ما يحصل تدافع خلال تعبئة المياه في دير البلح (مجدي فتحي/ Getty)

مجتمع

لطالما اشتهرت مدينة دير البلح وسط قطاع غزة بالهدوء، وهو ما لا ينطبق عليها اليوم في ظل التهجير الذي شهدته بعدما ضاقت الأمكنة بالغزيين، فباتت الأكثر اكتظاظاً.
الصورة
الحصص المائية للفلسطينيين منتهكة منذ النكبة (دافيد سيلفرمان/ Getty)

مجتمع

في موازاة الحرب الإسرائيلية على غزّة يفرض الاحتلال عقوبات جماعية على الضفة الغربية تشمل تقليص كميات المياه للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية.
الصورة
عائلة الخالدي تنتصر وتستعيد عقارها في باب السلسلة/سياسة/العربي الجديد

سياسة

في صراع متواصل يستهدف العقارات الوقفية في البلدة القديمة من القدس، نجحت عائلة الخالدي في استعادة عقارها في حي باب السلسلة المتاخم للمسجد الأقصى.
المساهمون