ترامب يُخضع مديرية الاستخبارات: زمن الأوفياء في إدارته

30 يوليو 2019
استقالة كوتس من إدارة الاستخبارات القومية لم تكن مفاجئة(Getty)
+ الخط -
لم يسخر أي رئيس أميركي من قياداته الاستخبارية أكثر من دونالد ترامب، ولم تناقض الاستخبارات الأميركية أي رئيس كما ناقضت ترامب الذي يسعى لمعلومات استخباراتية في خدمة أجندته السياسية وليس العكس. استقالة دان كوتس من إدارة الاستخبارات القومية، والتي أعلنها الأخير يوم الأحد الماضي، لم تكن مفاجئة، لكنها تكرّس مسار تعيين البيت الأبيض للأوفياء في مناصب الأمن القومي الحساسة، وقد تطوي صفحة الهدنة القائمة بين الرئيس والمجتمع الاستخباراتي، لا سيّما مكتب التحقيق الفيدرالي (أف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه).

منذ تسلّمه منصبه في مارس/ آذار 2017، كان تقييم كوتس الاستخباراتي لا يلتقي مع أبرز قضايا السياسة الخارجية التي يُقاربها ترامب. كانت الاستخبارات في زمن كوتس تعتقد أن كوريا الشمالية ليست جادة في التخلي عن سلاحها النووي، وإيران لم تنتهك الاتفاق النووي، وتنظيم "داعش" لا يزال قوياً في سورية والعراق. كما تحدى كوتس رغبة ترامب بالتودد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى أنه أعرب عن "حزنه العميق" وأشاد بزميله وزير الدفاع جيمس ماتيس، حين دفعه ترامب إلى الاستقالة نهاية العام الماضي. ومع استقالة كوتس، يمكن القول غادر آخر "العقلاء" من الإدارة ـو آخر الاصوات التي كانت تسعى لعقلنة سياسة ترامب الخارجية.


كوتس بقي في منصبه حتى الآن إلى حدّ كبير بسبب وساطة نائب الرئيس مايك بنس، المقرب من المدير السابق للاستخبارات القومية، لا سيما أن كليهما من ولاية إنديانا. حرص كوتس في بيان استقالته يوم الأحد الماضي، على التوقف عند أكثر من نقطة. أشار إلى أن العمل كأكبر مسؤول استخباراتي في البلاد كان "امتيازاً كبيراً" لكن الوقت حان كي "ينتقل" إلى الفصل التالي من حياته. كما تطرق إلى عمله لتعزيز جهود مجتمع الاستخبارات الأميركي لمنع إلحاق الأذى بالولايات المتحدة من الأعداء.
لكن الأبرز كان حرصه على ذكر تأسيسه أمانة تنفيذية لأمن الانتخابات، لتسليط الضوء على ما تراه الاستخبارات تدخلاً روسياً مستمراً في الانتخابات الأميركية. استقالة كوتس تعني رحيل أحد الصقور ضد روسيا من إدارة ترامب، لا سيما أن موسكو كانت قد حظرت سفر كوتس إلى روسيا عام 2014 عندما فرضت عقوبات على أعضاء في الكونغرس الأميركي.

مدير الاستخبارات القومية هو منصب على مستوى وزاري يخضع لسلطة الرئيس بطبيعة الحال، وتمّ استحداثه عام 2004 ضمن الإصلاحات التي تم إقرارها بعد اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، عقب تحقيقات لمعرفة أسباب فشل الاستخبارات الأميركية في توقع هذه الاعتداءات. وخلاصة هذه التحقيقات كانت وجود تنافس وعدم مشاركة معلومات بين الأجهزة الاستخباراتية، لا سيّما "أف بي آي" و"سي آي إيه". بالتالي تمّ وضع الأجهزة الاستخباراتية الـ16 تحت مظلة مدير الاستخبارات القومية، الذي يعطي الرئيس إيجازاً استخباراتياً صباح كل يوم، عبارة عن ملخّص لكل المعلومات التي تحصل عليها المديرية من أجهزة الاستخبارات حول العالم.



منذ توليه السلطة دخل ترامب في معركة مفتوحة مع الاستخبارات من منطلق تحقيق "أف بي آي" في احتمال التواطؤ بين حملته الرئاسية والكرملين. وهذه القضية رسمت إلى حدّ كبير ملامح نظرته للمجتمع الاستخباراتي. أقال ترامب مدير "أف بي آي" جيمس كومي في مايو/ أيار 2017، لكن خليفته كريستوفر راي لم يخضع لسطوة البيت الأبيض. وبعد انتقال مايك بومبيو من إدارة "سي آي إيه" إلى وزارة الخارجية في إبريل/ نيسان 2018، أتت خليفته جينا هاسبل التي حافظت أيضاً على استقلالية الوكالة وناقضت ترامب في قضايا السياسة الخارجية، مثل ملف مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

خيار ترامب تعيين النائب الجمهوري عن ولاية تكساس جون راتكليف خلفاً لكوتس، يأتي في سياق اختياره للأوفياء له في المناصب الوزارية الحساسة، لا سيما أن راتكليف قدّم أوراق اعتماده للرئيس خلال شهادة مولر أمام اللجنة القضائية في مجلس النواب الأسبوع الماضي، حين قام بمطالعة قانونية اعتبر فيها أن لا شيء في القانون الأميركي يسمح لمولر بالقول في تقريره إنه لا يبرئ الرئيس من تهمة عرقلة العدالة. وكانت هناك مقالات على موقع "فوكس نيوز"، تشير إلى أنه "حان موعد تنظيف المجتمع الاستخباراتي". وراتكليف نفسه قال يوم تعيينه، الأحد الماضي، إن "المحاسبة آتية في وزارة العدل لمن ارتكب جرائم في قضية إطلاق التحقيق ضد حملة ترامب في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.

وقد سارع ترامب للكتابة عبر تويتر قائلاً إن "المدعي السابق جون (راتكليف) سيتولى التوجيه وسيكون مصدر إلهام لعظمة البلد الذي يحبه"، فيما اكتفى بشكر كوتس "على الخدمات العظيمة التي قدمها لبلدنا".

كل هذه المواقف الحزبية ستجعل جلسة التصديق على تعيين راتكليف في مجلس الشيوخ معارك مفتوحة بين الجمهوريين والديمقراطيين. وهذا على الأرجح ما يريده ترامب لحملته الرئاسية وقاعدته الانتخابية، لكن هذا المنصب الاستخباراتي الحساس، كان تاريخياً بعيداً عن التجاذبات السياسية. راتكليف كان مدعياً عاماً سابقاً في إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، كما عمل في تكساس في مناصب فيدرالية معنية بالأمن القومي ومكافحة الإرهاب. وهو من أكثر النواب المحافظين في الكونغرس، لكن خبرته محدودة لمنصب استخباراتي على هذا المستوى الوزاري مقارنة مع من سبقوه مثل جون نيغروبونتي ومايكل مكونيل ودينيس بلير.

كوتس جلب الاستقرار لهذه العلاقة المعقدة بين الرئيس والمجتمع الاستخباراتي، وفي حال التصديق على تعيينه ليس واضحاً بعد ما إذا راتكليف سيتبع الأسلوب نفسه، أو يكون مسيساً في إدارة الاستخبارات القومية، وهو ما قد يعيد الأزمة إلى الواجهة بين الرئيس والاستخبارات. حتى الآن تفادى كل من راي في "أف بي آي" وهاسبل في "سي آي إيه" المواجهة مع البيت الأبيض، بسبب غطاء كوتس وخشية من تأثير هذه الخلافات على مؤسساتهما. لكن إذا قرر راتكليف غربلة وتسييس المعلومات الاستخباراتية فقد تنتقل أجهزة الاستخبارات من التردد في إعطاء مشورة تتعارض مع مواقف الرئيس إلى استعادة قرار المواجهة المبطنة معه.


ومع استقالة كوتس، يمكن القول غادر آخر "العقلاء" من الادارة او آخر الاصوات التي كانت تسعى لعقلنة  سياسة ترامب الخارجية.
المساهمون