تحولات الجيش الجزائري... من قبضة بوتفليقة إلى قايد صالح

08 ابريل 2019
تولّى أحمد قايد صالح منصبه في عام 2004(فرانس برس)
+ الخط -
عشية انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1999، قال الرئيس الجزائري وقتها عبد العزيز بوتفليقة، والذي تنحى أخيراً، إنه لن يقبل أن يكون ربع رئيس. كان هذا الخطاب موجهاً لقيادة الجيش التي كانت تتحكّم من وراء الستار بالمشهد السياسي. ومنذ ذلك الحين، بقيت المؤسسة العسكرية متحفزة تجاه سياسات بوتفليقة، لا سيما بعدما استبعدها من المشهد السياسي خلال السنوات الأولى من حكمه، قبل أن تساهم بعد 20 عاماً في دفعه إلى التنحي، مستفيدةً من ضغط الحراك الشعبي الذي تفجّر عقب إعلان بوتفليقة نيته الترشح لولاية خامسة، على الرغم من أن الأخير كان يعتقد أنه، بإبعاده لصقور الجيش وقائد الأركان السابق محمد العماري في عام 2004، قد ضمن ولاء المؤسسة العسكرية على نحو تام.

وبينما يعدّ دور الجيش حاسماً في التطورات المتسارعة التي تشهدها الجزائر منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، تاريخ بدء الحراك، لا سيما بعدما تواترت تصريحات رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح، الضاغطة على معسكر بوتفليقة، تُطرح تساؤلات عديدة في الشارع اليوم حول دور هذه المؤسسة العسكرية في الفترة المقبلة. ويتركز التساؤل حول ما إذا كان الجيش، بعد التغييرات العميقة التي شهدها في تركيبته البشرية والقيادية، سيواصل تمسكه بدوره كـ"حام للدستور"، من دون أن يؤدي أي أدوار سياسية، مدفوعاً باستخلاصه للتجارب السابقة وإدراكه لضرورة تفادي أي صراعات داخلية بين قياداته وتجنب أي مواجهة مع الشعب لن تقل تكاليفها عن مراحل سابقة في التاريخ السياسي للجزائر، أم أنه سينتقل إلى مرحلة أخرى تعيد البلاد إلى ما قبل عام 1999، عندما كان الجيش هو المتحكّم بالمشهد، قبل أن يقلّص بوتفليقة من دوره تدريجياً وعلى مراحل.

وتتعزّز هذه المخاوف إذا ما تمّ رصد التحولات التي مرّ بها الجيش في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ مرض بوتفليقة، إذ تظهر أنّ رئيس الأركان، أحمد قايد صالح، الذي تولّى منصبه في عام 2004، عمل تدريجياً على إبعاد جميع الشخصيات العسكرية التي من الممكن أن تزاحمه داخل الجيش، ما أتاح له عبر سلسلة تغييرات ممنهجة، تسارعت في الأشهر الأخيرة، ليس فقط إحكام قبضته على المؤسسة العسكرية، بل إعادة الجيش إلى صدارة المشهد السياسي بعد نحو 20 عاماً من بدء بوتفليقة تهميش دوره.

المرحلة الأولى التي بدأ فيها بوتفليقة بتقليص دور الجيش تعود عملياً إلى سبتمبر/ أيلول 1999. يومها، طرح بوتفليقة مشروع الوئام المدني للاستفتاء الشعبي، والذي كان يستهدف بالأساس الحصول على شرعية شعبية يتخلّص بموجبها من منّة الجيش باستقدامه إلى الرئاسة. عقب ذلك، أطلق بوتفليقة، منذ عام 2002، مشروعاً لتحديث الجيش وإعادة تسليحه وهيكلته وتطوير ترسانته وتحويله إلى جيش احترافي. هذا المشروع الذي كان يستهدف بالأساس استبعاد يد الجيش عن صناعة القرار السياسي، وتحرير السلطة السياسية من المؤسسة العسكرية، لم يكن لصالح الفعل الديمقراطي، إذ كان هدفه خدمة السياسات الانفرادية التي تطبع شخصية بوتفليقة ونزعته السياسية. وقد دفع الأخير الجيش إلى الانغماس في الشؤون العسكرية والتكوين والجوانب الاحترافية المتصلة بتدبير المؤسسة العسكرية وتسييرها، وإغنائها عن الاهتمام بالشقّ السياسي.

وقد أدت السيطرة التدريجية لبوتفليقة على مجمل المشهد السياسي، إلى دفع الجيش، الذي خرج من مرحلة إرهاق تام بشري ولوجيستي خلال معركة مكافحة الإرهاب التي امتدت حتى عام 2000، إلى البدء بتغييرات جذرية في تركيبته.

وفي عام 2004، كان بوتفليقة قد استكمل استبعاد صقور الجيش من جنرالات مرحلة الأزمة الأمنية، وأبعد قائد الأركان محمد العماري والجنرال محمد تواتي، وعدد من القيادات الأخرى.

ومع بروز المتغيرات الداخلية، وانسحاب أو إبعاد القيادات العسكرية التي كانت تستند أكثر إلى الشرعية الثورية، باعتبار أنّ كبار جنرالات الجيش كانوا من قدماء جيش التحرير، بات الطريق مفتوحاً أمام صعود لافت لقيادات عسكرية شابة تستمدّ شرعيتها من حالة تكوين عسكري متقدّم.


وبخلاف التركيبة السابقة لقيادات الصفّ الأول للجيش ذات التكوين الروسي أو في أكاديميات أوروبا الشرقية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، برزت قيادات عسكرية متعددة الخلفية العسكرية تكويناً، واستفادت من مدارس عسكرية في دول لا يؤدي الجيش فيها أي دور سياسي. واستخلصت دروساً وتجارب مرّة عاشها الجيش، خصوصاً في التسعينيات من القرن الماضي، بفعل تحمله عبء تلك المرحلة أمنياً وعسكرياً.

وفي هذا الإطار، يقول مدير كلية العلوم السياسية في جامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، قوي بوحنية، وهو متخصص في الدراسات ذات العلاقة بين الجيش والشأن السياسي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "القيادات من جيل ما بعد الثورة وجيل الاستقلال، استفادت من تكوين عسكري مختلف في مؤسسات ذات رؤية واضحة لعلاقة الجيش بالشأن السياسي، كالمدارس الأميركية والبريطانية والفرنسية. وهذا التكوين جعل من القيادات العسكرية الصاعدة أكثر فهماً لطبيعة دور الجيش في الدولة". ويضيف بوحنية أنه "في الحقيقة هناك أمر مسلّم به في تحرّك الجيش الجزائري، يتمثّل في العقيدة الوطنية. الجيش الجزائري جيش شعبي وليس ملكياً، لكن هناك تغيّراً عميقاً في التركيبة البشرية له، في ظلّ جيل جديد من الكفاءات التي تملك شرعية شعبية وتقنية عسكرية".

وعلى الرغم من صعود جيل جديد من القيادات العسكرية الشابة إلى مختلف مستويات القيادة  في الجيش، إلا أنّ قيادة الأركان ظلّت بيد عسكري ينتمي إلى جيل ثورة التحرير، وهو الفريق أحمد قايد صالح، والذي بات الرجل القوي في الجزائر بعد إزاحة بوتفليقة.
ويدير قايد صالح في الوقت الحالي الجيش عبر تركيبة من القيادات العسكرية البارزة ميدانياً، ووجوه جديدة تتولى المسؤولية العسكرية العليا للمرة الأولى، بعدما أفرزتها سلسلة من التغييرات، جرت بين شهري يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول الماضيين، كان الهدف منها إبعاد رئيس الأركان لجميع القيادات العسكرية التي من الممكن أن تزاحمه داخل المؤسسة العسكرية، وتعيين مقربين منه، ما أتاح له إحكام قبضته على الجيش.

وفي تلك الفترة، تمّ تعيين اللواء سعيد شنقريحة (سبتمبر 2018)، قائداً للقوات البرية خلفاً للواء أحسن طافر. وتعدّ القوات البرية الأبرز في الجيش، وفي الغالب يرتقي قائد القوات البرية إلى منصب قائد أركان الجيش. وقبيل تعيين شنقريحة، كان هناك حديث عن محاولة صالح تحييد طافر لمنع تقدمه إلى منصب قائد أركان الجيش. واللافت أنّ شنقريحة الذي نقلت إليه قيادة القوات البرية، يعدّ الوحيد من قيادات الصف الأول للجيش الذي نجا من حملة التغييرات.

أما القوات الجوية، فيديرها اللواء حميد بومعيزة، الذي خلف اللواء عبد القادر لوناس. ويعد بومعيزة من المقربين من رئيس أركان الجيش.

كذلك يبرز العميد إسماعيلي مصطفى في قيادة المنطقة الثالثة، واللواء غريس عبد الحميد كأمين عام لوزارة الدفاع، بعد استبعاد اللواء محمد زناخري، والجنرال مفتاح صواب كقائد للمنطقة العسكرية الثانية بعد استبعاد اللواء سعيد باي، واللواء محمد سيدان قائداً للمنطقة العسكرية الأولى التي تشمل العاصمة والمدن القريبة منها، خلفاً للواء حبيب شنتوف.

وإذا كانت التغييرات التي حملت قيادة عسكرية جديدة إلى صدارة الجيش قد وفّرت خدمة كبيرة لقائد الأركان، فإنّ الأخير استفاد أيضاً من تغيير موازٍ لموازين القوى في جهازي الأمن والاستخبارات، بعد تنحية مدير الجهاز الأخير الفريق محمد مدين، في سبتمبر 2015، ومدير جهاز الأمن العام اللواء عبد الغني هامل في يونيو/ حزيران 2018، قبل أن يطيح قايد صالح قبل أيام بمدير جهاز الاستخبارات الفريق بشير طرطاق.

ويمثّل جهاز الاستخبارات القوة الأمنية الثانية الموازية للجيش، إضافة إلى قوة الحرس الجمهوري التي يقودها الجنرال بن علي بن علي، وهو الشخصية العسكرية الأكثر موالاة لبوتفليقة، خصوصاً أنهما يتحدران من المنطقة نفسها، وهي تلمسان، غربي الجزائر. هذا فضلاً عن كون الحرس الجمهوري هو الجهاز المكلف بحراسة وتأمين المقرات الحيوية التابعة للرئاسة.

لكن أستاذ العلوم السياسية، قوي بوحنية، يقلّل من أهمية وثقل الحرس الجمهوري، ويعتقد أنّ طبيعة العقيدة السياسية للجيش، لن تتيح لأي قوة داخله الخروج عن إجماع الموقف العسكري. ويقول "هناك عقيدة أمنية وسياسية أكثر رسوخاً في الجيش، ولم تحدث في التاريخ أي حالة تمرّد أو انقلابات داخل المؤسسة العسكرية"، موضحاً أنّ "الحرس الجمهوري تعداده قليل، ولن يستطيع مواجهة الإجماع داخل الجيش أو السعي لتغيير موازين القوى". ويشير بوحنية إلى أنّ "الحراك الشعبي قدّم أيضاً خدمة كبيرة لقايد صالح، وصكّاً على بياض، مكّنه من إعلان استعادة جهاز الاستخبارات إلى وصاية وزارة الدفاع، وترميم ما تهشّم من صورة الاستخبارات الجزائرية وإنقاذها من حالة عبث سياسي قامت به الرئاسة بعد فصل هذا السلك عن الجيش، وتقسيمه إلى أذرع".