في أقلّ من 48 ساعة فرض اللبنانيون خيارات جديدة لم تكن يوماً في حسابات الطبقة السياسية التي حكمت البلاد لعقود وفق توازنات وحسابات طائفية، فرضها الواقع، وأمنت لها القدرة على التحكّم بالبلاد، قبل أن يقلب الشعب الطاولة، بدءاً من مساء الخميس، لشلّ قدرة الطبقة السياسية على اللعب على هذه التناقضات التي عادة ما تستثمر لتأليب فئة ضد أخرى. ما حصل في الساعات الماضية لا يمكن وضعه سوى في خانة الحدث التاريخي في لبنان، بغض النظر عما سيسفر، وعما سينتج عنه، خصوصاً أن الشعب اللبناني توحد خلف مطالب وشعارات، ونجح في فرض معادلة الشارع على الطبقة السياسية مجتمعة. بدأت كرة الثلج بتحركات عفوية سرعان ما تحوّلت إلى كرة نار شملت كل الأراضي اللبنانية من دون استثناء، فقد قطعت كل الطرقات الرئيسية في العاصمة وضواحيها، وصولاً إلى الأوتوستراد الساحلي الدولي، والأوتوستراد العربي الذي يربط العاصمة بيروت بالعاصمة السورية دمشق، وصولاً إلى كل المحافظات اللبنانية والأقضية، وشهدت المدن الداخلية والساحلية تجمعات في أكثر من ساحة ونقطة، إضافة إلى القرى والأقضية الحدودية الجنوبية والشرقية والشمالية.
عملياً انطلق الغضب الشعبي العارم، الذي لم يشهد لبنان مثيلاً له سوى في العام 1992، الذي أطاح يومها بحكومة عمر كرامي، لكن بنسبة أقل بكثير، بعد محاولة الحكومة إقرار سلسلة من الضرائب الجديدة التي تطاول الفئات الفقيرة والمعدومة، لكن سرعان ما تبيّن من الحشود وكذلك من شعاراتهم أن الأزمة ليست فقط في الضرائب بل في كل ما يحصل في البلد من النظام الذي أطبق سيطرته بفعل المحاصصات والفساد، وصولاً إلى الوضع الاقتصادي.
فاجأت التحركات الحكومة اللبنانية والطبقة السياسية بسبب سرعة انتشارها، وتحرك كل المناطق، وكل الطوائف، وضربت عملياً قدرة هذه الطبقة على تخويف فئات من الأخرى، كما جرت العادة، فشهدت الساعات الأولى صمتاً مريباً أخفى في طياته تخبّط الحكومة وعدم قدرتها على التعامل مع الوضع، باستثناء تصريحات وزيرة الداخلية ريا الحسن، وإصدارها أوامر بعدم التصادم مع المحتجين، في موقف تقول مصادر حكومية لـ"العربي الجديد" إنه جاء بسبب التخوف الفعلي من انفجار الوضع والدخول في نفق مجهول في حال المواجهة بالقوة كما حصل في العام 2015 إثر أزمة النفايات.
وإضافة إلى قطع الطرقات الرئيسية والتظاهر في الساحات العامة، وجّه الشارع خطابات مباشرة إلى قياداته الطائفية، خصوصاً أنه في لبنان كل منطقة محسوبة على طائفة وفريق معين. وبرزت تظاهرات كبيرة في مدن الجنوب اللبناني (أقضية صور، النبطية، بنت جبيل) وفي محافظة بعلبك الهرمل، ضد الثنائي الشيعي "حزب الله" وحركة "أمل"، تخللها اعتداء على مكاتب نواب محسوبين عليهما، إضافة إلى تسمية قيادات الحزب والحركة بالاسم وانتقادهم واتهامهم بالتقصير والفساد والسرقة، وخصوصاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله في سابقة تعد الأولى في لبنان.
وحذت المناطق الأخرى حذو الجنوب وبعلبك، إذ شهدت المناطق ذات الغالبية السنّية والمحسوبة على تيار "المستقبل"، تظاهرات هي الأخرى، وخصوصاً في بيروت وطرابلس وعكار والبقاع، وسط رفع شعارات واضحة ضد رئيس الحكومة سعد الحريري، وصولاً إلى إنزال صوره في طرابلس. وامتدت التظاهرات منذ ليل الخميس-الجمعة إلى شمال بيروت وتحديداً جبل لبنان حيث الأقضية التي تضم أغلبية مسيحية، وسط شعارات انتقدت العهد ورئيس الجمهورية ميشال عون، وصولاً إلى مدينة البترون الشمالية، التي شهدت تجمّعات وانتقادات لرئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، وهي مسقط رأسه. وبرز التزام واضح لدى المحتجين في رفع شعار "كلن يعني كلن"، وهو الشعار الذي رفع مراراً في السنوات الثماني الأخيرة، وتوحدوا خلفه لتأكيد أن الأزمة المعيشية التي تطاولهم لا تستثني أحداً، وأن كل الطبقة السياسية مجتمعةً مسؤولةٌ عما آلت إليه الأوضاع، ما ساعد في كسر أدوات السلطة في لبنان التي عادة ما تصور أي تحرك بأنه استهداف من طائفة ضد أخرى.
وفي رمزية المشهد أيضاً، برز أيضاً للمرة الأولى التخلي عن مركزية التظاهر في لبنان التي عرفتها السنوات الماضية، لصالح انتشار رقعة الاحتجاجات على كل مساحة البلد، ما أعطى أيضاً تصوراً لطبيعة التحركات العفوية التي شملت القرى والمدن على حد سواء، بما أن المتضررين من التردي والانهيار الحاصل هم كل اللبنانيين. خلال التحركات برز إضافة إلى شعار "كلن يعني كلن"، ترداد الشارع شعارات الربيع العربي، ومنها "الشعب يريد إسقاط النظام"، وأخرى متعلقة بالعدالة الاجتماعية، إضافة إلى شعارات تدعو إلى استقالة الحكومة مجتمعة، وتتهم الطبقة السياسية مجتمعة بالفساد، مرددين قول "حرامية". إضافة إلى ذلك صوّب المتظاهرون باتجاه العهد ورئيس الجمهورية، عبر قولهم: " فل فل فل عهدك جوّع الكل".
وشملت الشعارات والمطالب رفضاً واضحاً للصيغة المعتمدة في لبنان، والتي تتقاسم عبرها الأحزاب والتيارات تحت شعار تمثيل الطوائف، حتى وظائف الدولة، ومن بينها حراس الأحراج، الذين لم يُعيَّنوا بعد بسبب التوازنات الطائفية، علماً أن غيابهم سمح في تفشي الحرائق التي انتشرت أخيراً. وكان شعار "كلن يعني كلن" محط خلاف في العام 2015 إذ انقسم حوله المتظاهرون حينها، بسبب ارتباط البعض بقياداتهم ومحاولة تحميل فئة واحدة مسؤولية الأوضاع وتبرئة قيادات أخرى. ولخّصت مصادر وزارية ما حصل في الساعات الأولى من التظاهرات بأنه صدمة كبيرة أصابت الحكومة والطبقة السياسية، إذ لم يتوقع أحد أن يكون حجم الغضب كبيراً، وأن ينتشر على رقعة الخريطة اللبنانية في غضون ساعات، وأن أقصى ما كان متوقعاً هو تحركات محدودة في العاصمة بيروت مثل العام 2015 لدى أزمة النفايات، وأن تكون للحكومة قدرة على التعامل معها. وجرت اتصالات مكثفة منذ انطلاق التظاهرات على أكثر من خط، وفق معلومات "العربي الجديد"، وخصوصاً بين عين التينة حيث مقر رئاسة مجلس النواب، والسراي الحكومي وبعبدا، إضافة إلى اتصالات بين الأحزاب اللبنانية، وخصوصاً بين الحريري و"القوات اللبنانية" والحزب "التقدمي الاشتراكي".
وأجمعت الحركة السياسية على اعتبار أن ما يحصل خطير جداً، وأن مواجهته بالقوة تعني انفلاتاً أمنياً خطيراً، وبالتالي بادرت وزيرة الداخلية إلى التأكيد مراراً أنها أمرت بعدم التصادم، بل فقط حماية الأملاك العامة. وبرز في سياق التخبّط غياب كلي للتصريحات السياسية في الساعات الأولى خصوصاً لـ"التيار الوطني الحر" و"حزب الله". وانتهى ليل الخميس-الجمعة إلى التوافق على عقد جلسة لمجلس الوزراء لاتخاذ القرارات المناسبة، في موقف موحد أمس الجمعة في قصر بعبدا، لكن سرعة التحركات وحجمها حتّما إلغاء الجلسة، ثم خروج الحريري بكلام مفاده أنه أمهل "الشركاء في الحكومة 3 أيام او سيكون لي كلام آخر".
مع العلم أنه إثر إلغاء جلسة مجلس الوزراء، زار باسيل قصر بعبدا مع وفد من تكتل "لبنان القوي" المحسوب على رئيس الجمهورية، واعتبر أن "ما حصل تفاقم أزمات أدت لانفجار الناس، وكان أمراً متوقعاً والآتي أعظم إن لم يتم الاستدراك". وأضاف أن "الرصيد المالي المتبقي قد لا يكفينا لنهاية العام إذا لم نعتمد السياسات المطلوبة". ورأى أن "ما يحصل قد يكون فرصة لإنقاذ لبنان، كما قد يتحول إلى كارثة كبيرة اقتصادية ومالية واجتماعية وأمنية ويُدخل لبنان في الفوضى. الخياران واضحان ومتناقضان، وهما بين عنواني الانهيار الكبير أو الإنقاذ الجريء".
وكانت بعض التيارات والأحزاب المشاركة في السلطة حاولت التماهي مع مطالب الناس، وخصوصاً "الاشتراكي" و"القوات اللبنانية"، عبر مطالبة الحريري بالاستقالة، على الرغم من تكرار الشارع شعارات رفض أي محاولات لتماهي بعض الأحزاب مع الشارع، محملين إياهم المسؤولية بوصفهم مشاركين بالسلطة منذ سنوات.
وعلى الرغم من خطاب الحريري إلا أن الخيارات التي جرى التداول فيها وفق معلومات "العربي الجديد" باتت محصورة في تأليف حكومة تكنوقراط مؤلفة من كفاءات، على الرغم من أن هذا الطرح قد يلقى معارضة الشارع الذي بات يرفع شعارات تدعو إلى استقالة رئيس الجمهورية، وانتخابات مبكرة. وعلمت "العربي الجديد" أن ثمة رفضاً كلياً في أوساط "التيار الوطني الحر" لاستقالة عون، وتعويلاً على أن تكون خطوة إسقاط الحكومة كافية لإرضاء الشارع، والجنوح نحو مشاورات مكثفة وتأليف حكومة أخرى عبر وجوه تطمئن الناس.
وعلمت "العربي الجديد" أن "القوات" و"الاشتراكي" باتا أكثر اقتناعاً بأن المشاركة في السلطة اليوم باتت انتحاراً، وهو الطرح الذي بات يعمل الفريقان على الترويج له، عبر دعوتهما الحريري إلى الاستقالة، والذي يلخص بتسليم البلد إلى الحاكم الفعلي أي "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" والجلوس على مقاعد المعارضة، على الرغم من أن هذا الطرح لا يجنّبهم محاسبة الشارع.
ويملك "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" مع حلفائهما أغلبية في مجلس النواب تمكّنه من تأليف حكومة وحده، إلا أن هذا الخيار دونه الخوف والقلق من أن أي حكومة لهذا الفريق المحسوب على المحور الإيراني-السوري، قد تتعرض لعقوبات دولية وعربية بسبب الموقف من "حزب الله"، وهذا ما يرجح حتى الساعة محاولة الترويج لحكومة تكنوقراط. وتمثل أحزاب وشخصيات ما كان يعرف بـ"14 آذار" أقلية في مجلس النواب، بعد خسارتها للأكثرية في الانتخابات الأخيرة، إثر تخبطها وانفراط عقدها، والأزمات التي عصفت خصوصاً بتيار "المستقبل"، ما عد! انكساراً للمحور الذي يمثل السعودية في لبنان.