استمع إلى الملخص
- تعامل المجتمع الإسرائيلي مع الهجوم كتهديد وجودي، مما عزز الوحدة الوطنية، رغم بروز قضايا خلافية مثل إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.
- تبنت إسرائيل نهجاً عسكرياً صارماً في غزة والضفة الغربية، مدعومة من المجتمع، مع استمرار التصدعات التقليدية وظهور تصدعات جديدة حول قضايا مثل صفقة تبادل الأسرى.
فوجئت إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بتنفيذ حركة حماس خططاً هجومية كانت معروفة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، لكنها لم تصدق أن الحركة يمكن أن تُقدم على تنفيذ هذه الخطط. وباغتتها قدرات "حماس" وضعف الدفاعات العسكرية الإسرائيلية والانهيار السريع لوحداتها على حدود قطاع غزة. في الأيام الأولى لهجوم "حماس" انهارت المعنويات لدى المجتمع الإسرائيلي، وصنّاع القرار، وسقطت الأفكار المسبقة والأوهام. سقطت المقاربات الأمنية وقدرة الردع، واستراتيجية احتواء "حماس" والفصل بين الضفة الغربية وغزة، والسعي لإضعاف السلطة الفلسطينية عبر تقوية "حماس". وسقطت مقاربات "إدارة الصراع" و"تقليص الصراع" عبر تحسين الحالة الاقتصادية للفلسطينيين تحت حجة جعل الاحتلال بديلاً عن الحقوق القومية الطبيعية، وعن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. بعد هذه المفاجآت بدأت إسرائيل، دولة ومجتمعاً ومراكز أبحاث، تطرح العديد من الأسئلة. وقامت بحملة لترميم حالها، دولة ومجتمعاً، وإعادة بناء قدرة الردع وتغيير الحالة الاستراتيجية، وقررت أن لا حدود أو ضوابط في هذا.
الأسئلة الصعبة في غزة
الأسئلة الأولى وُجّهت إلى المؤسسة العسكرية حول سطحية تعاملها مع التهديدات، والاستهتار بقدرات ونيات "حماس"، وحول قدرات الجيش الحقيقية. كذلك وُجّهت أسئلة صعبة واتهامات تجاه الحكومة وصنّاع القرار السياسي، تحديداً إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأن سياسته وتصرفاته منذ تشكيل الحكومة الحالية نهاية العام 2022، خصوصاً الخطة الحكومية لتقييد القضاء، زادت من التصدعات الداخلية وجعلت إسرائيل منقسمة، وأضعفت قدرة الردع الإسرائيلية وشجعت "حماس" على تنفيذ مخطط الهجوم. في المقابل، اتهم مؤيدو الحكومة حركات الاحتجاج ضد الخطة الحكومية لتقييد القضاء وحركات رفض الخدمة العسكرية، خصوصاً إعلان قسم ضئيل من الطيارين في سلاح الجو حينها عن نيّتهم رفض الخدمة في الاحتياط في حال نفذت الخطة، بأنهم هم من أضعف قدرات الردع الإسرائيلية وشجّع "حماس" على تنفيذ الهجوم.
المجتمع الإسرائيلي بكامل تياراته وانتماءاته السياسية والاجتماعية تعامل مع نتائج هجوم السابع من أكتوبر كونه تهديداً وجودياً
كان من المتوقع أن يؤدي هجوم السابع من أكتوبر إلى توسيع التصدعات السياسية والاجتماعية، إلى حد يهدد بتماسك المجتمع والدولة في إسرائيل. لكن، على الرغم من كل الخلافات لم يحدث ذلك. يمكن تفسير ذلك بأن المجتمع الإسرائيلي بكامل تياراته وانتماءاته السياسية والاجتماعية تعامل مع نتائج هجوم السابع من أكتوبر كونها تهديداً وجودياً يطفو على أي اختلاف داخلي، وأن المشروع الصهيوني تحت تهديد وجودي. استعادة خطاب "الكارثة والمحرقة النازية" عزز هذه الأجواء، بالإضافة إلى تبني هذا الخطاب من كلّ القياديين السياسيين. انضمام حزب "المعسكر الرسمي" بقيادة بيني غانتس وغادي إيزنكوت إلى حكومة نتنياهو بعد عدة أيام من السابع من أكتوبر عزز أجواء الوحدة والشعور بالخطر في آن واحد.
الإخفاق الكبير والغضب على المؤسسة العسكرية والسياسية لم يمنع تجنّد المجتمع الإسرائيلي للمجهود العسكري. نسبة التجنيد في قوات الاحتياط كانت مرتفعة جداً، وقامت مجموعات ومؤسسات عديدة في التجنّد وجمع التبرعات لتوفير ما ينقص من احتياجات لقوات الجيش والاحتياط، من معدات وأغذية وأحياناً المعدات العسكرية.
حرب الإبادة مقبولة إسرائيلياً
هجوم السابع من أكتوبر فتت العقيدة الأمنية الاسرائيلية واستراتيجية الردع والحسم السريع، ومحاولة تقليل الخسائر البشرية قدر الإمكان، ومنع ضرر اقتصادي ومدني في الجبهة الداخلية. كل هذا تغيّر بعد السابع من أكتوبر. بات المجتمع والمؤسسة العسكرية أكثر استعداداً لقبول حرب طويلة، فيها أثمان بشرية ومادية كبيرة، وخسائر اقتصادية.
الجيش الإسرائيلي ارتكب منذ بداية الحرب على غزة جرائم حرب وإبادة، ومستوى القتل والدمار لم يكن له شبيه. الجيش الإسرائيلي أراد الانتقام لإخفاقه، وكان بحاجة إلى ترميم مكانته أولاً وقبل كل شيء أمام المجتمع الإسرائيلي، وترميم مكانته في عملية صناعة القرار في إسرائيل. بذلك ألغى كل الخطوط الحمراء، واعتبر أن كل فلسطيني في غزة كان شريكاً في هجوم السابع من أكتوبر، ولم يعد في غزة من وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أي مدني. كل شيء مباح وشرعي في الحرب الوجودية. المجتمع الإسرائيلي لم يعارض أياً من هذه الخطوات، ولم يحتج على ارتكاب المجازر وقتل المدنيين والأطفال والنساء. بل شاهدنا في العديد من الحالات نداءات من المجتمع بزيادة القتل والدمار، لتلقين "الفلسطينيين درساً لن ينسوه".
إسرائيل بدأت أيضاً بالتوازي مع حرب الابادة على غزة عمليات عسكرية واجتياحات لبلدات ومدن الضفة الغربية قُتل فيها المئات واعتُقل الآلاف. الجيش استعمل في الضفة الغربية أدوات عسكرية شبيهة بتلك التي استخدمها بحرب الإبادة في غزة، منها القصف الجوي والاغتيالات، وتدمير البنى التحتية، وعدم التفرقة بين المدنيين والأطفال والنساء وكبار السن، وبين المقاتل. كذلك في الضفة الغربية بات كل شيء مباحاً بدون أي اعتراض، لا من المجتمع ولا من السياسيين.
بروز التصدعات
المجتمع الإسرائيلي وصنّاع القرار كسروا في حرب الإبادة الفكرة القائلة إن إسرائيل لا تترك أسراها ولا تتنازل عنهم، وإنها تعمل المستحيل دائماً لاستردادهم. نتنياهو وضع قضية الأسرى والمخطوفين في مكانة ثانوية مقابل تحقيق أهداف الحرب المعلنة. قسم كبير من المجتمع الإسرائيلي قَبِل هذه المعادلة وفهم أن إعادة الأسرى والمخطوفين مؤجلة لغاية تحقيق بقية أهداف الحرب، ولغاية أن تقبل "حماس" بصفقة تبادل بالشروط الإسرائيلية. قسم آخر من المجتمع ما زال يطالب بوضع قضية تحرير الأسرى والمخطوفين على رأس سلم الأولويات، ويطالب بالتوصل إلى صفقة تبادل وتحرير الأسرى والمخطوفين. تحوّل هذا المحور إلى موضوع خلافي في المجتمع الإسرائيلي، إلا أنه لم يتطور إلى درجة تهديد التماسك الداخلي، وما زال في حدود مستويات الخلافات المقبولة داخل المجتمع الإسرائيلي، والمنظومة السياسية.
المجتمع الإسرائيلي وصنّاع القرار كسروا في حرب الإبادة الفكرة القائلة إن إسرائيل لا تترك أسراها ولا تتنازل عنهم
موضوع خلافي آخر برز منذ السابع من أكتوبر، ويشكّل تصدعاً سياسياً جدياً، هو قضية إعفاء طلاب المعاهد الدينية والشباب الحريدي من الخدمة العسكرية. صحيح أن هذا الموضوع يلازم المشهد السياسي الإسرائيلي في العقد الأخير، إلا أن حدته ازدادت منذ السابع من أكتوبر بسبب حاجة الجيش إلى قوى بشرية، والنقص في عدد الجنود جراء الإصابات العديدة في الحرب. غالبية المجتمع الإسرائيلي تطالب بتحديد أعداد الإعفاءات من الخدمة العسكرية للشباب الحريدي. الأحزاب الدينية المتزمتة-الحريدية ترفض بالمطلق تغيير الوضع القائم وتمنع سنّ قانون يفرض حلاً وسطاً لتجنيد الشباب الحريدي. على الرغم من حدة الخلافات بين الأحزاب السياسية حول هذا الموضوع، حتى داخل التحالف الحكومي نفسه، إلا أنه لم يؤدِ لغاية الآن إلى تفكك الحكومة ولم يؤد إلى أزمة جدية داخل المجتمع الإسرائيلي. حتى بعد انتهاء صلاحيات قانون التجنيد، لم يفرض الجيش التجنيد على الشاب الحريدي.
نجح نتنياهو في المناورة في هذه القضية، وفي احتواء رفض الأحزاب الحريدية لأي تغيير في الوضع القائم، من جهة، واحتواء المطالب بزيادة أعداد التجنيد للشباب الحريدي داخل حزب الليكود وأحزاب التحالف الحكومي، من جهة أخرى. انضمام حزب "اليمين الرسمي" بقيادة جدعون ساعر إلى الحكومة مهّد الطريق إلى سنّ قانون تجنيد جديد يكون مقبولاً على الأحزاب المتشددة دينياً (الحريديم)، ولو عارض القانون وزير الأمن يوآف غالانت.
الحرب على عدة جبهات
بدأت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة حرباً واسعة أمام حزب الله، تحوّلها أيضاً إلى حرب وجودية لحزب الله، بعد أن كانت تدعي أنها تخشى احتمال الحرب الواسعة على أكثر من جبهة بالتوازي. ويبدو فعلاً أنه لم يكن باستطاعتها القيام بذلك بدون خسائر باهظة وأثمان كبيرة. لكن إسرائيل عملت على مدار العام على منع توسع الجبهة الشمالية قبل أن تكون مستعدة لذلك، وقبل أن تنجز العمليات العسكرية الواسعة في غزة. ناورت وخدعت وتهيأت ورتبت أوراقها لفتح حرب واسعة مع حزب الله، بشروطها وبعد أن استعدت لذلك. بذلك لم تتغير الفرضية بأن إسرائيل لا تفضّل خوض حرب واسعة في عدة جبهات بالتوازي. وما حصل أن إسرائيل قلّصت العمل العسكري في غزة إلى درجة تمكّنها من فتح جبهة لبنان على نحو مفاجئ، وبأسلوب همجي ووحشي يمنع إلحاق أضرار واسعة بالجبهة الداخلية، كما حصل فعلاً لغاية الآن.
إسرائيل قلّصت العمل العسكري في غزة إلى درجة تمكّنها من فتح جبهة لبنان
إسرائيل باتت مستعدة لحرب طويلة، مكلفة بشرياً وعسكرياً واقتصادياً، وقد تطاول الجبهة الداخلية. إسرائيل تسعى إلى استغلال الظرف لتغيير مكانتها الاستراتيجية التي ضُربت في السابع من أكتوبر، وبشكل أقل نتيجة للجبهة المحدودة التي بادر إليها حزب الله تحت عنوان جبهة الإسناد. إسرائيل تريد توجيه رسائل مفادها أنها لن تقبل بعد السابع من أكتوبر وجود أي تهديد أمني جدي على حدودها، لأن منظومة وأدوات الردع فشلت ولم تعد تكفي لمنع الضرر. إسرائيل توضح أنها مستعدة لدفع الأثمان، مقابل ألا تتضاعف الأثمان في المستقبل.
التماسك بعد الخلل الموقت
في المجمل، لم يؤد هجوم السابع من أكتوبر والإخفاق الكبير، والخسائر الإسرائيلية الكبيرة، العسكرية والمدنية، وضرب العقيدة الأمنية وقدرات الردع، إلى توسع التصدع والانقسام الداخلي في إسرائيل، ولم يحصل انهيار في تماسك المجتمع ولا في المؤسسة الأمنية والعسكرية، ولم يتفكك التحالف الحكومي. كما لم تلغِ حالة الطوارئ والشعور بالخطر الوجودي الاختلافات السياسية ولا التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي. قسم من التصدعات التقليدية خبا وتراجع، وبرزت مكانه تصدعات جديدة، خصوصاً حول صفقة التبادل وتحرير الأسرى والمخطوفين وحول تجنيد الشباب الحريديم. كما تراجعت التصدعات والخلافات حول مصير الاحتلال والاستيطان، وبات هناك شبه إجماع حول أفول إمكانية حل الدولتين. لا يمنع هذا كله طبعاً توسع التصدعات والاختلافات بعد انتهاء الحرب والخروج من أجواء التهديد الوجودي.
لم تلغِ حالة الطوارئ والشعور بالخطر الوجودي الاختلافات السياسية ولا التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي
إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، كما قبله، تجاهلت الأسئلة السياسية الصعبة. سؤال استمرار احتلال شعب آخر ومنعه من الحرية والاستقلال، والتمسك بالقمع والاستغلال والقتل والاستعمار. وها هي بعد السابع من أكتوبر تتخلى علناً ونهائياً عن الحلول السياسية والسلمية، التي من شأنها أن تغيّر الواقع بشكل حقيقي وجوهري لسكان البلاد كافة. ولم تستنتج أن أي احتلال وقمع للشعوب لا يمكن أن يدوم، ولو ازداد البطش والقتل والدمار، وأن الواقع تحت الاحتلال سيستمر في البحث عن الحرية والاستقلال ولو كان ثمن ذلك باهظاً. بدل ذلك تستمر في اختيار الحلول العسكرية والأمنية، وتهرب إلى الأمام، وها هي تأخذ المنطقة إلى مغامرة عسكرية أخرى لا يستطيع أحد التكهن بنتائجها.