"العربي الجديد" في نِهْم: الموت على مشارف صنعاء

27 يونيو 2018
جبهة نِهم أشد جبهات الحرب ضراوة(علاء محمد/خاص العربي الجديد)
+ الخط -
عُرفت جبهة نِهم شرق العاصمة اليمنية صنعاء، كإحدى أشد الجبهات  ضراوة بين مناطق الحرب في البلاد، وأكثرها إثارة للجدل. وقد رصدت "العربي الجديد" أجواء تلك الجبهة من جهة المناطق التي تسيطر عليها قوات الشرعية، وكانت الحصيلة مغايرة إلى حد ما، عن بعض ما يثار حولها في وسائل الإعلام، بوصفها أقرب الجبهات إلى العاصمة صنعاء وأكثرها بطئاً وإثارة للتكهنات.

وتعد مديرية نهم من أكبر مديريات محافظة صنعاء مساحة إذ تقع على امتداد 1841 كيلومتراً مربعاً، وتحدها من الشرق والشمال محافظتا مأرب والجوف الواقعتين ضمن مناطق الشرعية، ويخترقها الخط الأسود الرئيسي الرابط بين صنعاء ومحافظات شرق اليمن، مأرب، شبوة، حضرموت، والمهرة.


وصلت قوات الشرعية إلى مديرية نهم إثر سلسلة من المعارك الضارية امتدت من مركز محافظة مأرب مروراً بمعسكر ماس الهام والذي كان تابعاً للحرس الجمهوري، وصولاً إلى مفرق الطريق بين الجوف ومأرب، ثم ما يسمى بنقيل الفَرَضة الذي كان اقتحامه من قبل قوات الجيش والمقاومة التابعة للشرعية مسنودين بمقاتلات التحالف العربي بقيادة السعودية، في ديسمبر/ كانون الأول 2015، إنجازاً عسكرياً بالغ الأهمية وغير متوقّع بمعايير الزمان والمكان، قياساً بالمعطيات الميدانية التي كانت سائدة في العام الأول للحرب.
وحسب إفادات جملة من القادة والمقاتلين ممن تحدثوا مع "العربي الجديد" فإنه تم اجتياز فرَضة نِهم عن طريق عملية التفاف قام بها ما يقارب 600 من مقاتلي الشرعية عبر جبال شاهقة الارتفاع على امتداد 8 كيلومترات، تسمى جبال قَرْوَد وهي سلسلة جبلية شديدة الوعورة غير مأهولة بالسكان ولا يوجد بها أية طرقات رئيسية أو فرعية، وقام المقاتلون بصعودها مشياً على الأقدام. وعلى إثر عملية الالتفاف تلك التي يتفاخر فيها العديد من المقاتلين في قوات الشرعية بالجبهة، أمكن مباغتة مقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين) والسيطرة على معسكر الفرضة في فبراير/ شباط 2016 وعلى تلال عديدة وصولاً إلى قمة جبل المنارة المطل على العاصمة صنعاء والذي تم الاستحواذ عليه منذ أغسطس/آب من العام نفسه، وقد برز في تلك المرحلة العديد من القادة الميدانيين منهم هاشم الأحمر الذي عُين أخيراً قائداً للمنطقة العسكرية السادسة.

ويفيد الجنود بأن المقاتلين الـ600 الذين نفذوا الالتفاف الهام عبر جبال قرْوَد وكانوا سبباً في سيطرة الشرعية على فرضة نهم، قضى معظمهم في معارك تالية، وبينهم 40 جريحاً إصابات 13 منهم، مستدامة. وقد ظلت معركة نِهم، منذ ذلك الحين، على وتيرة واحدة من الكرّ والفرّ بين مقاتلي الشرعية والحوثيين مع تقدم نسبي لقوات الشرعية لا يرقى لاعتباره حاسماً في مسار المواجهات. وأثار هذا الأمر العديد من التكهنات حول هذه الجبهة التي التهمت آلاف الجنود والمجندين من الطرفين، وسط تساؤلات عديدة عن سرّ تأخر الحسم في تلك الجبهة الهامة التي تعد أقرب الطرق إلى السيطرة على العاصمة صنعاء.

ومن بين التفسيرات التي تٌقدم حول الجبهة أن الضغوط الدولية ظلت تؤدي دوراً بتأخير التقدم نحو صنعاء. كما يسود اعتقاد آخر بأن التحالف قد يكون لديه أجندة خاصة متعلقة بـ"نهم" لتغدو جبهة استنزاف بشري للحوثيين تستهلك أكبر قدر من مقاتليهم قبيل التقدم باتجاه نقيل بن غيلان الذي يعد البوابة الشرقية الأخيرة المؤدية إلى العاصمة صنعاء. كذلك يتحدث آخرون عن وجود رغبة بجعل المنطقة محطة استنزاف أيضا لمقاتلي الشرعية، خصوصاً مع الوجود القوي لمنتمين أو مناصرين لحزب الإصلاح الذي تربطه علاقة ليست بأفضل أحوالها مع بعض دول التحالف، فيما يسوق خصوم الإصلاح من جانبهم تكهنات من نوع آخر ويتهمون القيادات العسكرية المحسوبة على الحزب بتعمّد تأخير الحسم في هذه الجبهة أملاً في تقوية مركزه التفاوضي والحصول على ضمانات وتطمينات حول دوره في مرحلة ما بعد إسقاط انقلاب الحوثيين. وقد وجدت جميع التفسيرات والتكهنات والاتهامات طريقها إلى العديد من التقارير والتحليلات الصحافية والتغريدات في مواقع التواصل الاجتماعي، وتراكم بعضها فوق بعض حتى أصبح العديد منها بمثابة المسلّمات في ذهن بعض المتابعين، غير أنّ للميدان والجنود المرابطين فيه تفسيرات أخرى لتأخر الحسم ليس من بينها التكهنات السابقة.

بدايةً فإن تضاريس المنطقة وفّرت على القادة والجنود تقديم تعليلات عديدة عن سر تأخر الحسم، إذ إن الوصول الى مواقع تمركز الجيش الحالية يتم بشق الأنفس وعبر سيارات الشبح من طراز تويوتا المحتكر الوحيد لارتياد مثل هذه الطرقات التي تم شقها حديثاً بعد وصول جنود الشرعية إلى مواقع شاهقة بعضها يحاذي السحاب كما هو الحال في قمة جبل المنارة الواقع في ميسرة الجبهة والمطل على العاصمة صنعاء بمسافة 18 كيلومتراً جوياً وضعف المسافة على الأرض.

ويسرد قائد المنطقة العسكرية السابعة، اللواء ناصر الذيباني، الذي التقته "العربي الجديد" في قمة جبل المنارة جملة من الظروف والتحديات التي تعتري جبهة نهم والتي يُعزى إليها مجتمعة سبب ما يصفه البعض بالتعثر في هذه الجبهة. ويمكن إجمالها في ستة عوامل أولها الامتداد الشاسع للجبهة على عرض 130 كيلومتراً، من الميمنة المحاذية لمديرية أرحب وصولاً إلى الميسرة المحاذية لمديرية بني حُشيش. وكان من شأن هذا الامتداد الواسع أن يشكّل تحدياً كبيراً للشرعية وتشتيتاً للمجهود الحربي فيها، مثلما يشكّل أيضاً، نقطة ضعف للطرف الآخر. غير أن الفارق بينهما هو أن مقاتلي الحوثي سيطروا على المواقع الهامة والقمم المشرفة في نِهم بداية الأمر، بدون طلقة رصاص واحدة، بينما يكلف استعادة كل موقع على حدة، العديد من الأرواح والعتاد من جانب الشرعية.

ثاني هذه العوامل يتمثل في استماتة الحوثيين على هذه الجبهة بوصفها أقصر طرق الشرعية إلى العاصمة، وبالتالي ما إن يخسروا موقعاً حتى يحاولوا بشتى الطرق استعادته. وفي السياق، يسرد جنود قصصاً عن استبسال واستماتة مقاتلي الحوثي في هذه الجبهة، وبسبب هذه الاستماتة تصبح كلفة الأرواح التي يقدمها جانب الشرعية أثناء عملية الحفاظ على موقع ما، أضعاف الكلفة التي تم تقديمها أثناء عملية الاقتحام والسيطرة. وحدث في إحدى المرات أن نفدت الذخيرة من الطرفين في أحد المواقع فاشتبكوا بالسلاح الأبيض. أما العاملان الثالث والرابع فيتمثلان في الألغام والقناصين، إذ زرع الحوثيون آلاف الألغام في كافة الطرق والمداخل المحتملة. وحصدت هذه الألغام المئات من أفراد الشرعية، بينهم مختصون بشق الطرقات في حين قضى مئات آخرون بنيران القناصين الحوثيين الذين تموقعوا في قمم مشرفة ومضايق حساسة لطالما عوقت تقدم الجيش وكبدته العديد من الخسائر. وهناك تلال بعينها صارت تعرف بـ"تبّة القناصين"، لا يزال بعض مقاتلي الحوثي يتمركزون فيها، الأمر الذي اضطرنا أثناء عودتنا ليلاً من جبهة نهم، لإطفاء أنوار السيارات لمسافة معينة، والاعتماد على خبرة السائقين وذلك لتفادي التحول إلى هدف للقنص. خامس العوامل التي مثلت تحديّاً لقوات الشرعية يرتبط بحقيقة أن سكان بعض القرى التي كانت على طريق التقدم هم موالون للحوثي، الأمر الذي كان بمثابة حاضنة رديفة لمقاتليه في تلك القرى. وأثناء المرور في قرى كان بعض سكانها يساندون مقاتلي الحوثيين كان لافتاً أنها خالية من السكان، إذ نزح أهلها فور وصول قوات الشرعية إليها فيما سهّل البعض الآخر تقدّم الشرعية، وتمّ إجلاء جميع السكان من تلك القرى بوصفها لا تزال منطقة عمليات عسكرية.

يقول أحد الجنود في حديث مع "العربي الجديد" إن القرى التي تمثل غالبيتها حاضنة اجتماعية للشرعية تقع في مناطق سيطرة الحوثيين وأن الوصول إليها وتأمينها سيكون أسهل من المرحلة السابقة، إضافة لكونه سيسهل الطريق على من يريد الالتحاق بالجيش الوطني سواء من تلك المناطق أو من المناطق التي تليها بعد أن قطعت المواجهات الطريق الرئيسية بين صنعاء ومأرب، وصار انضمام الأفراد للشرعية من مناطق سيطرة الحوثي غرب نهم، أمراً بالغ الصعوبة بسبب وعورة التضاريس وتشديد القبضة الحوثية على المداخل البديلة.
أما العامل السادس فيتجسد في وعورة التضاريس التي تؤدي الدور الأكبر في طول أمد المعركة في جبهة نهم، حتى رغم التفوق الذي تمتاز به قوات الشرعية بوصفها تمتلك غطاء جوياً من مقاتلات التحالف. ويلحظ الزائر لتلك المناطق أن السلسلة الجبلية المكونة لمديرية نِهم تبدأ من أسفل نقيل الفرَضة شرقاً، حيث درجة عالية مرتفعة نسبياً بسبب المستوى المنخفض للأرض، ورويداً رويداً تأخذ درجات الحرارة في الانخفاض أثناء صعود السلسلة باتجاه الغرب حيث تكون البرودة والشمس الساطعة توأمين في عز الصيف أعلى قمة جبل المنارة. وكان لهذا الانحدار الشاهق تبعاته على سيرورة المعارك إذ تلاحمت وعورة التضاريس مع انعدام الطرقات لتضاعف من كلفة تقدم القوات الحكومية.

يقول مسعد طه، وهو أحد الجنود المرابطين في الجبهة، في حديث مع "العربي الجديد"، إن عملية ارتقاء هذه المرتفعات الوعرة المزروعة بالألغام سيراً على الأقدام كانت غاية في المشقة، وبالتالي كان الجنود ينقسمون فريقين الأول ينفذ الهجوم والآخر يحمل صناديق الماء والطعام والذخيرة، وأحياناً لا يصل كرتون الماء المحمول على ظهر جندي للموقع المراد الوصول إليه إلا وقد استهلك الجندي نصف عبوات الماء في الطريق. والأمر بطبيعة الحال أكثر مشقة مع صناديق الذخيرة بوزنها الثقيل، ولذا كانت تتم في بعض الأحيان الاستعانة بالحمير لحمل المؤن. ويسرد في حديثه مع "العربي الجديد" كيف أن أحد الحمير لم يسلم من نيران القناصين. أما التبعة الأخرى لوعورة التضاريس فتتمثل في صعوبة إسعاف الجرحى، حيث تستغرق في بعض الأحيان، عملية إسعاف جندي جريح، 48 ساعة حتى يصل إلى أقرب نقطة تطبيب. ولذا كان شق الطرقات للمواقع التي تتم السيطرة عليها أولوية لدى "الجيش الوطني"، ولعل أطولها الطريق الذي تم شقه إلى أعلى قمة جبل المنارة واستمرت عملية شقه نحو أربعة أشهر.

في أعلى قمة جبل المنارة كان المنظر لافتاً لمن يزور الموقع للمرة الأولى إذ تظهر للعيان سلسلة جبال عيبان المحتضنة لصنعاء من جهة الغرب، ما يعني أن العاصمة صارت هدفاً مرئياً لقوات الشرعية في هذه القمة، والى الشمال يظهر جبل ضِين المشرف على مطار صنعاء من جهة محافظة عمران. كما يُرى بوضوح نقيل بن غيلان البوابة الشرقية للعاصمة والذي يحول هو والجبال المجاورة له دون رؤية شوارع صنعاء وأحيائها من تلك القمة. وخلال التواجد في الموقع يتكرر طلب الجنود بخفض الرؤوس خشية تمكن نواظير مقاتلي الحوثيين المتمركزة في منطقة عَصِر شمال العاصمة من ملاحظتنا، وما هي إلا دقائق حتى سمع صفير بعض القذائف في الجو وطُلب من المتواجدين على الفور مغادرة الموقع.

وفي ذلك المكان وجدها اللواء الركن ناصر الذيباني فرصةً ليفند التكهنات التي تثار حول جبهة نهم متحدثاً عن "جسارة الإنجاز الذي حققته قوات الشرعية بوصولها لهذا الموقع الهام وفقاً للتحديات الجمة التي اكتنفت ذلك التقدم". وحسب الذيباني فإن الجنود جاهزون للتقدم لمواقع أخرى بانتظار الضوء الأخضر من القيادة العليا للجيش. وتتضافر كل هذه العوامل مجتمعة لتعطي تفسيرات متعددة لتأخر حسم جبهة نهم تجعل الفارق واضحاً بين ما يقال في بعض وسائل الإعلام من تكهّنات، وما يدور على الأرض من تحديات.

تكاد تسقط التصنيفات الحزبية لمنتسبي قوات الشرعية في جبهة نهم، إذ تتشكل ألوية الجبهة من مجندين جدد بعضهم مستقلون والبعض الآخر محسوبون على أحزاب عدة، عدا عن الحضور الواضح لجنود وضباط سابقين في الجيش. كما تعدد الانتماءات المناطقية للجنود في جبهة نهم حيث تُسمع أغلب لهجات اليمن بما فيها لهجة أبناء حضرموت وشبوة البعيدتين نسبياً عن منطقة نهم، مع غلبة للهجة أبناء العاصمة صنعاء والمديريات المحيطة بها، بواقع القرب المكاني لهم من الجبهة. ويتوزع الجنود المنتسبون لأمانة العاصمة ضمن لواءي المجد والنصر، مع كتيبة خاصة يطلق عليها البعض، كتيبة المؤهلات العليا، معروف أن أغلب أفرادها من حملة شهادات الماجستير والدكتواره، وقد قضى العديد منهم في معارك نهم لعل آخرهم اثنان من حملة الدكتوراه قضيا خلال معارك شرسة دارت بعد يومين من زيارتنا للجبهة.

وبعيدا عن أجواء المواجهات وموازين القوة العسكرية في جبهة نهم، فإن ثمة معاناة ممتدة على امتداد زمن المعارك في تلك الجبهة سببها انقطاع الطريق الرئيس الواصل بين صنعاء ومأرب والذي كان يُقطع في ساعتين وصار الآن يكلف المسافرين وسائقي شاحنات الغاز والوقود والبضائع والمحاصيل الزراعية الوافدة من مأرب إلى صنعاء والعكس، عشر ساعات على الأقل عبر الطريق البديلة التي تمرّ من مأرب إلى محافظة البيضاء حيث نقطة أبو هاشم الشهيرة التابعة للحوثيين في منطقة رداع، ومنها إلى محافظة ذمار ومن ثم صنعاء.

دلالات
المساهمون