محيط دمشق ضحية حسابات النظام وحلفائه: تدمير بهدف التهجير

06 مارس 2018
كابوس التهجير يسيطر على أهالي الغوطة الشرقية (أنس الدمشقي/الأناضول)
+ الخط -
لطالما شكّلت النقاط المدنية في المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة السورية، أهدافاً للقصف من قبل النظام السوري ومعه الطيران الروسي، إذ تكون منازل الأهالي والنقاط الطبية والأفران والمدارس وغير ذلك من البنى التحتية، أهدافاً للقصف التدميري، حتى حين لا تكون هناك اشتباكات مسلحة مع فصائل المعارضة. وفي وقت الاشتباك مع الفصائل المسلحة، يجد طيران النظام والروسي الوقت الكافي لاستهداف عمق مناطق المعارضة حتى تلك البعيدة جداً عن نقاط الاشتباك، فضلاً عن القصف المدفعي والصاروخي والبراميل المتفجرة، وهو ما يؤكد وجود خطة ثابتة لتدمير الحياة البشرية في هذه المناطق، وليس مواجهة الفصائل المسلحة فقط، لتكون الحياة فيها غير ممكنة، فتتحول إلى مكان طارد للسكان، لا يصلح للحياة، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا مدارس أو مراكز طبية أو أفران أو مواد غذائية، فضلاً عن فقدان الأمن نتيجة القصف المستمر وإمكانية الموت في كل لحظة. بالتالي فإن القصف المبرمج وتدمير إمكانيات العيش في مناطق المعارضة، هو هدف استراتيجي للنظام ولإيران، التي تعمل عبر مليشياتها وقوات النظام، مستفيدة من القوة الجوية الروسية، على تهجير سكان بعض المناطق، خصوصاً ريف دمشق.

وعمدت إيران والنظام السوري خلال السنوات الأخيرة، إلى تطبيق هذه السياسة القائمة على تفريغ ريف دمشق من سكانه، والذين كان عددهم قبل الثورة يزيد عن أربعة ملايين نسمة، عبر الحصار أولاً بحجة وجود مسلحين، ومن ثم القصف التدميري للمنازل ومقومات الحياة، وصولاً إلى تهجير المقاتلين وأهاليهم. بينما يؤدي انعدام مقومات الحياة، إلى تهجير بقية السكان "طوعاً"، إذ بات معظم أهالي هذه المناطق خارجها، فمن أصل أربعة ملايين نسمة، لا يوجد في ريف دمشق اليوم أكثر من مليون، أغلبهم مهدد بالتهجير، كما حال سكان الغوطة الشرقية التي تُعتبر الثقل السكاني الأكبر حالياً في ريف دمشق الذي لم يصبه التهجير القسري على نطاق واسع، بينما غادر أكثر من نصف سكان الغوطة خلال السنوات الماضية نتيجة التدمير الممنهج لمقومات الحياة فيها، على غرار مناطق أخرى.


أساليب واحدة للتهجير

ويُظهر استعراض مراحل التهجير التي مرت على ريف دمشق خلال السنوات الماضية، تشابه الأساليب المتّبعة، والقائمة على الحصار والقصف ثم الاقتحام والتهجير. وكان تهجير مقاتلي بيت جن وجوارها نهاية العام الماضي باتجاه إدلب ودرعا آخر المحطات في هذا الإطار، ولم تبق بعد ذلك سوى منطقة الغوطة الشرقية مع امتداداتها في شرق العاصمة، ومنطقة جنوب دمشق التي يسيطر على معظمها تنظيم "داعش".
وقبل اتفاق بيت جن كان هناك اتفاق "المدن الأربع"، في ربيع العام الماضي، حين تم إخلاء مقاتلي وبعض سكان الزبداني ومضايا، مقابل إخلاء جزء من مقاتلي وسكان بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب. وشملت عملية التهجير الآلاف من مقاتلي مدينة الزبداني وجبلها الشرقي، ومدنيين ومقاتلين من بلدتي مضايا وبقين، وقرى منطقة وادي بردى.

وسبقت ذلك اتفاقات مشابهة قضت بإخلاء الكثير من بلدات الريف الدمشقي التي كانت بحوزة المعارضة، بدءاً من إخلاء سكان ومقاتلي مدينة داريا، قرب دمشق، في الشهر الثامن من العام 2016 وصولاً إلى إخلاء قرى وادي بردى نهاية شهر يناير/ كانون الثاني من العام الماضي.
وشكّل اتفاق داريا، الذي يُعتبر النموذج المعتمد لدى النظام الذي جرى تعميمه على بقية المناطق مع بعض التعديلات الطفيفة، بداية تراجع لجبهة المعارضة، إذ تبعته سلسلة لم تتوقف بعد من الاتفاقيات المماثلة والتي تعكس بدء ميل الكفة لصالح النظام في مجمل مناطق الريف الدمشقي، وهي اتفاقات متشابهة تتضمن ترحيل المقاتلين إلى محافظة إدلب في الشمال السوري، وأحياناً الأهالي أيضاً أو جزء منهم، مقابل فك الحصار ووقف قصف تلك المناطق.

وبعد داريا، تتالت الاتفاقات المشابهة لتشمل معضمية الشام، ثم قدسيا والهامة اللتين تعتبران إلى جانب داريا الأقرب إلى دمشق. ومع إبعاد المسلحين عن هذه المناطق القريبة جداً من قلب العاصمة دمشق، بدأ النظام يتطلع إلى المناطق الأبعد قليلاً، مثل خان الشيح والتل، حيث جرت اتفاقات مشابهة تقضي بخروج المقاتلين، أو "تسوية" أوضاعهم.
وبعد منطقة خان الشيح التي خضعت لحصار دام أكثر من عامين، عمل النظام على ترحيل مقاتلي المعارضة من بلدة كناكر المحاصرة في الغوطة الغربية وإرغامهم على توقيع "اتفاق مصالحة". وتحت الحصار والقصف والتهديد بالاجتياح أو الاجتياح المحدود، امتدت هذه الاتفاقات إلى بلدات أخرى في الريف الدمشقي، مثل زاكية والدرخبية ومجمل الغوطة الغربية.


مصدر قلق للنظام

والواقع أن الريف الدمشقي شكّل منذ انطلاق الثورة في ربيع 2011، مصدر قلق للنظام الذي يدرك أن أبناء هذا الريف لا يكنّون له الود بسبب ممارساته المتراكمة بحقهم خلال العقود الماضية، لجهة الاستيلاء على أراضيهم بحجج مختلفة، وإهمال مناطقهم وحرمانها من أبسط الخدمات، على الرغم من أنها تشكل رئة دمشق ومصدر غذائها.

وكانت مناطق ريف دمشق في طليعة المناطق التي ثارت على النظام، وشهدت تظاهرات مناوئة له منذ الأيام الأولى للثورة. ومن هنا تلاقت مصالح النظام في إخماد الريف الثائر، مع مصالح إيران في الاستيلاء على مناطق هذا الريف وتهجير سكانه، بينما ساعد الطيران الروسي في تنفيذ هذا المخطط بنيّة تثبيت حكم بشار الأسد، والقضاء على كل أشكال المعارضة المسلحة، والتي تعتبرها روسيا بالجملة إرهابية.
وبعد اشتداد عود الفصائل المسلحة في ريف دمشق اعتباراً من العام 2012، بدأ النظام يستشعر خطورة هذا الوضع، فاستعان بـ"حزب الله" لمساعدته على تأمين المناطق الواقعة بين دمشق والحدود اللبنانية، وجعل تلك المناطق التي تشمل بلدات القلمون ووادي بردى مناطق نفوذ للحزب الذي تولى قتال فصائل المعارضة فيها، ونجح خلال الأعوام التالية في تقليص ثقل قوات المعارضة، لينتهي كلياً مع تهجير آخر مقاتلي "جبهة فتح الشام" (النصرة) من الجرود السورية قرب بلدة عرسال اللبنانية العام الماضي.

كما تحظى مناطق شرق دمشق وجنوبها الشرقي باهتمام خاص من قبل إيران و"حزب الله"، خصوصاً منطقة السيدة زينب وما حولها، بحجة حماية مقام السيدة زينب هناك. وبهذه الذريعة، سيطرت المليشيات التي تدعمها إيران على كثير من البلدات المجاورة للسيدة زينب، منها: شبعا، والذيابية، وحجيرة، والسبينة، التي كان يعيش فيها مئات آلاف المواطنين، وأغلبهم من أبناء النازحين من الجولان المحتل والذين تم تهجيرهم، ولم يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، بعد نحو خمس سنوات من استعادة مناطقهم من قوات النظام والمليشيات، وذلك في إطار ما يُعتقد أنها سياسة تغيير ديمغرافي ممنهجة تقوم بها إيران و"حزب الله" بتواطؤ من النظام.

هذه التراجعات في موقف قوات المعارضة شملت أيضاً الغوطة الشرقية التي يسيطر عليها بشكل رئيسي فصيلا "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، واللذان عاشا حالة تنازع واقتتال لبعض الوقت، ما ساعد قوات النظام على تحقيق اختراقات متتالية في جبهات الغوطة حتى باتت اليوم على بُعد كيلومترات قليلة فقط من مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة، والمعقل الرئيسي لـ"جيش الإسلام".
وبدأ الخرق في إبريل/ نيسان العام قبل الماضي، حين تمكنت قوات النظام من فصل القطاع الجنوبي في الغوطة والذي يضم عدة بلدات، مثل دير العصافير، زبدين، بالا، ركابية، حوش دوير، بياض، عن شمالها، أي فصل المناطق الزراعية عن المناطق الآهلة بالسكان، ما زاد من محنة الحصار المفروض على الغوطة منذ خمس سنوات.

كما سعت قوات النظام إلى تحقيق اختراق على جبهة شرق دمشق التي كانت تضم مناطق جوبر والقابون وبرزة، بهدف إبعاد "خطر المعارضة" عن العاصمة دمشق، والذي ظهر جلياً من خلال الهجوم المفاجئ الذي شنّته قوات المعارضة على العاصمة العام الماضي انطلاقاً من هذه المناطق واستطاعت الوصول إلى كراجات العباسيين، قبل أن تتمكن قوات النظام من استعادتها مجدداً، وتختم الأمر كالعادة بتهجير السكان، ودفع المقاتلين إلى الانسحاب باتجاه عمق الغوطة، باستثناء منطقة جوبر التي ما زالت صامدة عسكرياً، ولو أنها خالية من السكان.
وعلى الرغم من نجاح قوات المعارضة حتى الآن في صد هجمات النظام وتحمّل قصفه اليومي لمدن الغوطة الشرقية وبلداتها، إلا أن كابوس التهجير بات هاجساً لعشرات الآلاف من المحاصرين في تلك المنطقة، إذ يعتقد السكان أن النظام يسعى لتكرار سيناريو التهجير الجماعي بالقصف اليومي والحصار والحرب النفسية، خصوصاً مع إعلان روسيا هدنة يومية لمدة خمس ساعات بهدف السماح لمن يرغب من السكان المدنيين والعسكريين بالخروج من الغوطة، التفافاً على قرار الهدنة رقم 2401 الذي اعتمده مجلس الأمن الدولي.

وتبقى منطقة جنوب دمشق التي تضم بلدات الحجر الأسود والقدم وببيلا ويلدا وبيت سحم والتضامن إضافة إلى مخيم اليرموك، والتي كان يقطنها قبل الثورة أكثر من مليون ونصف المليون شخص، نموذجاً حياً لسياسة التهجير السكاني، إذ لم يبق فيها اليوم سوى بضعة آلاف من السكان بعد أن غادرها سكانها خلال السنوات الماضية بسبب الحصار التجويعي والقصف، ليقع بعضها تحت سيطرة تنظيم "داعش"، ومناطق أخرى تحت سيطرة فصائل من الجيش الحر. لكنها جميعاً تعاني من الضعف العسكري بسبب خضوعها للحصار المحكم منذ سنوات، ويستطيع النظام اجتياحها عسكرياً، لكنه يمتنع عن ذلك بهدف إبقاء الوضع السكاني على حاله، لأن استعادتها من النظام يفترض أن تتبعها عودة الأهالي وهم بمئات الآلاف، وهو ما لا تريده إيران، التي تتطلع إلى استلام مناطق خالية من السكان حتى لو كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش"، ما دام الأخير لا يشكل أي خطورة على النظام، ويمكن انتزاعها منه في أي لحظة. وهذا الأمر ينطبق على مناطق شرق دمشق المحيطة بالسيدة زينب التي تهيمن عليها إيران و"حزب الله"، ويُمنع سكانها، وهم بمئات الآلاف أيضاً، من العودة إليها، على الرغم من استعادة السيطرة عليها من جانب قوات النظام ومليشيات إيران منذ منتصف العام 2013.