الثناء الإسرائيلي على السلطة: شرعيتها تنبع من التنسيق الأمني

14 فبراير 2018
التنسيق الأمني تجلّى في حادثة جنين أخيراً(جعفر أشتية/فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن الثناء الذي وجّهه وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان لعناصر الأمن الفلسطيني على جهدهم في إنقاذ جنديين من أيدي الجموع الفلسطينية الغاضبة في جنين يوم الإثنين، مفهوما ضمناً, فهذا الثناء صدر عن شخص لم يترك فرصة أو مناسبة إلا هاجم فيها السلطة الفلسطينية، معتبراً أنها "غير شرعية، وأن الرئيس عباس فاقد للشرعية لأنه ببساطة أنهى ولايته الدستورية ولم يسمح بإجراء الانتخابات الفلسطينية في موعدها الرسمي في 2010".

لكن تصريحات ليبرمان، أمس الثلاثاء، وإشادته بأهمية التنسيق الأمني باعتباره مصلحة مشتركة للسلطة ولحكومة الاحتلال، عكست في واقع الحال حالة أخرى نادرة من التوافق بين تقديرات الجهاز العسكري والأمني الإسرائيلي وبين المستوى السياسي، الذي شدّد في السنوات الأخيرة من هجومه ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس. وآخر تصريح في هذا السياق صدر بالذات عن ليبرمان في 31 من الشهر الماضي، أثناء مقابلته مع رئيس مركز أبحاث الأمن القومي، الجنرال عاموس يادلين، خلال المؤتمر السنوي للمركز عندما كرر الحديث عن عدم شرعية عباس، وعن أن الأخير ترك بصماته الواضحة ضد إسرائيل، وأنه قرر، لعدم القدرة على مواجهة إسرائيل عسكرياً، استنزاف قواها دولياً.

من هنا فإن اتجاه ليبرمان إلى الإشادة بالتنسيق الأمني والقول إن الاحتلال يعمل على المحافظة عليه، خصوصاً في ظل عمق هذا التنسيق بين الطرفين، يكشف في الواقع حقيقة النظرة الإسرائيلية للدور المطلوب من السلطة الفلسطينية، باعتبارها حامية للأمن الإسرائيلي أولاً وأخيراً، بالتالي تبقى شرعيتها نابعة من مدى التزامها وقيامها بهذا الدور.

يفسّر هذا الواقع، عملياً، التصريحات "المفاجئة" لليبرمان، ليس لأنها كشفت واقعاً كان مخفياً، بل لأن عمق التنسيق اضطرّ ليبرمان إلى المجاهرة بما لم يكن مستعداً له، وخصوصاً أنها تصريحات أكدت الدور الرسمي الفلسطيني بحماية الأمن الإسرائيلي، ودحضت عملياً دعاية ليبرمان ورئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بكل ما هو مرتبط بفكرة "أن السلطة تحرض على العنف ضد إسرائيل"، ذلك أنه من غير الممكن اتهام طرف بالتحريض على العنف ضدك، ثم إغداق الثناء عليه بفعل التنسيق الأمني العميق معه.

وإذا كان اضطرار ليبرمان إلى الاعتراف بهذا الدور الفلسطيني جاء بفعل وضوح دلالة دور الأجهزة الأمنية في حادثة جنين، وعدم القدرة على التنكر لقيام عناصر الأمن الفلسطيني بإطلاق النار في الهواء خلال عملية إنقاذ الجنديين الإسرائيليين في جنين، فإن موقف الأجهزة الأمنية في إسرائيل وقادة الجيش من أهمية التنسيق والتعاون بين قوات الاحتلال والأجهزة الفلسطينية ليس سراً، بل كان معلناً. وشكّل التزام الطرف الفلسطيني بأداء دوره هذا عامل كبح أساسياً، استغلته المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية لفرض موقفها ضد أي إجراء إسرائيلي أو قرار يتخذه المستوى السياسي ضد السلطة الفلسطينية وقادتها، من خلال التحذير المرة تلو الأخرى من العواقب الوخيمة لوقف هذا التنسيق أو لضرب مكانة السلطة الفلسطينية، وإتاحة المجال أمام سيطرة حماس على الضفة الغربية.


وكان هذا السيناريو الأخير بمثابة لازمة كررتها المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في السنوات الثلاث الأخيرة، مع إبرازها للدور الفعلي الذي تقوم به قوات أمن السلطة الفلسطينية في محاربة حركة حماس، وتقييد نشاط عناصرها وإحباط محاولات الحركة تنفيذ عمليات عسكرية وفدائية ضد قوات الاحتلال سواء في الضفة الغربية المحتلة أم داخل إسرائيل.

وقد نشرت الصحف الإسرائيلية مثلاً الأسبوع الماضي، أن أجهزة الأمن الفلسطينية اكتشفت أخيراً قرب جنين أكثر من 12 عبوة ناسفة متطورة للغاية، قامت باستدعاء فرق خبراء جيش الاحتلال لتفكيكها. وذكرت صحيفة "هآرتس" الأسبوع الماضي، في أوج بحث قوات الاحتلال ومطاردتها للشهيد أحمد جرار قبل تصفيته واغتياله، وأثناء مطاردتها لعبد الحكيم عادل عاصي، الذي قتل مستوطناً عند مفترق أريئيل قبل أسبوعين تقريباً، أن أحد الملفات التي انشغلت بها إسرائيل بموازاة مطاردتها للشهيد جرار، هو السؤال عما إذا كان قد نما في الضفة الغربية المحتلة، وتحت رادار أجهزتها الأمنية وعيون استخباراتها، "مهندس جديد" خلفاً للشهيد يحيى عياش، الذي نشط خلال الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993) وقام بتركيب العبوات الناسفة التي استخدمتها "حماس" في تنفيذ عمليات تفجيرية أوقعت خسائر هائلة في صفوف الإسرائيليين، إلى أن تمكنت قوات الاحتلال من تصفيته في عام 1996 في قطاع غزة بواسطة هاتف نقال مفخخ.

وزيادة على ذلك فقد سبق لمنسق شؤون حكومة الاحتلال، يوآف مردخاي، وقادة الجيش الآخرين أن دعوا حكومة الاحتلال ومارسوا ضغوطاً عليها لتبني مواقف سلطة رام الله لتعزيز مكانتها في مواجهة "حماس". وتجلى ذلك بقرار حكومة الاحتلال مثلاً في وقف تزويد قطاع غزة بالكهرباء، كأداة للضغط على "حماس" للرضوخ لشروط الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعد أن أبلغت السلطة الفلسطينية في أبريل/نيسان من العام الماضي حكومة الاحتلال أنها "ستتوقف عن تمويل مد غزة بالكهرباء". وأعلنت الحكومة الإسرائيلية على أثر ذلك عن قرار وقف مد غزة بالكهرباء، مبينة أن ذلك جاء نزولاً عند ضغوط الرئيس محمود عباس.



عملياً يمكن القول إن التنسيق الأمني بهذا العمق الذي كشف عنه ليبرمان في تصريحاته، عاد أيضاً بالفائدة على السلطة الفلسطينية لجهة تثبيت مكانتها وقوتها في الضفة الغربية، وكان الدافع الأساسي والرئيسي وراء سياسة "التخفيف عن الناس" وتحسين ظروف المعيشية في الضفة الغربية التي اعتمدها منسق شؤون حكومة الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة.

ولم تخف دلالات التنسيق الأمني وحادثة جنين عن أعين المراقبين والمحللين الأمنيين في إسرائيل لجهة مقارنة ما آلت إليه الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة اليوم، وما كانت عليه في عام 2000، وحدود التنسيق الأمني وشكله وطبيعته في ذلك الوقت، خصوصاً عندما وقعت حادثة مشابهة وضلّ جندي إسرائيلي طريقه ودخل مدينة رام الله، وانتهى به المطاف مقتولاً من قبل جمهور فلسطيني غاضب، في المرحلة الأولى للانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 ـ 2005).

واعتبر المحلل الأمني في "معاريف"، يوسي ميلمان، أنه "يكفي ملاحظة مشاركة عناصر من الشرطة الفلسطينية آنذاك في عملية قتل الجندي الإسرائيلي، مقابل اندفاع عناصر أمن السلطة الفلسطينية لتخليص الجنديين وإنقاذهما من الجمهور الغاضب في جنين، وإعادة السلاح الذي سرق منهما وتسليمه لجيش الاحتلال".

وذهب ميلمان إلى القول إن "أداء عناصر الأمن الفلسطيني يثبت، وليس للمرة الأولى، ضرورة التعاون والعلاقات بينهم وبين جهاز الأمن الإسرائيلي للمحافظة على الأمن النسبي في الضفة الغربية ومنع تدهور الأوضاع فيها، على الرغم من انعدام أفق سياسي، وبالرغم من تدهور العلاقات مع السلطة تحت رئاسة عباس وحكومة إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، إلا أن هذه العلاقات وهذا التعاون الأمني يمنعان وقوع عمليات وأحداث عنف مختلفة".