قفزت مدينة منبج، كبرى مدن الريف الحلبي، إلى واجهة المشهد السوري، مع ورود أنباء عن استعداد قوات النظام للانقضاض عليها في حال انسحاب القوات الأميركية منها، بعد قرار الرئيس دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سورية، في الوقت الذي أدخل فيه الجيش التركي تعزيزات "غير مسبوقة" إلى ريف حلب الشمالي، استعداداً كما يبدو لعملية عسكرية باتجاه المدينة التي تُسيطر عليها "وحدات حماية الشعب" الكردية.
كذلك يواصل النظام حشد قوات له في شرقي سورية للسيطرة على كامل ريف دير الزور الشرقي الغني بالبترول، بعد القرار الأميركي المفاجئ، إذ تؤكد مصادر متعددة أن هذه القوات ستطلق، بدعم روسي، عملية واسعة النطاق. وأكدت مصادر متقاطعة أن قوات النظام تحشد بالفعل في قرية تل أسود التي تبعد 25 كيلومتراً جنوب منبج، استعداداً لاحتمال دخول المدينة بالتواطؤ مع "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي ربما تلجأ إلى هذا الخيار لقطع الطريق أمام الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية، التي تستعد هي الأخرى لانتزاع السيطرة على المدينة. ولطالما كانت مدينة منبج الواقعة غرب نهر الفرات سبب خلاف بين الجانبين التركي والأميركي، إذ لم يلتزم الأخير باتفاق وقع في 4 يونيو/ حزيران الماضي كان من المفترض أن ينهي وجود "الوحدات" الكردية في المدينة. ووقفت القوات الأميركية الموجودة في محيط مدينة منبج في وجه الجيش التركي الذي حاول أكثر من مرة الدخول إلى المدينة للقضاء على "خطر الوحدات" الكردية غربي نهر الفرات. وأكدت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، أن حالة ترقب تسود المدينة، مشيرة إلى أن هناك مخاوف من محاولة الأكراد تغيير معادلات الصراع بتسليم المدينة لقوات النظام ومليشيات محلية تابعة لها، وهو ما من شأنه دفع عدد كبير من الأهالي للنزوح شمالاً نحو مناطق "درع الفرات"، خشية قيام هذه القوات بعمليات انتقام بحق المدنيين.
ويحاول النظام أن يكون أحد اللاعبين في قضية مدينة منبج، في ظل أنباء عن مفاوضات بدأت بينه وبين "قسد" لتسليم مناطق تسيطر عليها لقوات النظام، في صفقة يبدو أنها تطبخ على مهل، في محاولة لتجنب عملية عسكرية واسعة النطاق من قبل الجيش التركي وفصائل المعارضة المرتبطة به، تُخرج "وحدات حماية الشعب" الكردية، التي تعتبر العمود الفقري لـ "قوات سورية الديمقراطية"، من معادلة الصراع على سورية. وفي هذا الصدد، زعمت صحيفة "الوطن"، المقربة من النظام السوري، أن الأهالي في مدينة منبج خرجوا، أول من أمس، "في تظاهرات احتجاجية"، مطالبين بخروج التحالف الدولي و"قسد" من المدينة بأقصى سرعة ممكنة وتسليمها لقوات النظام السوري. كذلك زعمت الصحيفة أن "الأهالي رفعوا العلم الوطني فوق المباني الرسمية، وفي الأماكن المرتفعة بمناطق متفرقة من المدينة"، مشيرة إلى أن الجيش الأميركي لم يسحب أياً من قواته الموجودة في منبج بعد. وتقع مدينة منبج، التي يشكّل العرب غالبية مطلقة من سكانها، على بعد 85 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من حلب، وتعد كبرى مدن الريف الحلبي، وتتمتع بموقع جغرافي يفسر سبب تنافس أطراف الصراع في سورية على السيطرة عليها. وانتزعت "قسد" السيطرة على منبج من تنظيم "داعش" منتصف عام 2016، بعد 56 يوماً من الحصار والقصف المكثف من قوات التحالف الدولي.
وفي السياق، أكدت مصادر في المعارضة السورية أن تعزيزات عسكرية "غير مسبوقة" للجيش التركي وصلت إلى الحدود مع سورية، أمس الأحد، مشيرة إلى أن جزءاً من هذه التعزيزات دخل ريف حلب الشمالي، واتجه إلى محيط مدينة منبج. ومن الواضح أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد صراعاً بين مختلف القوى على مدينة منبج، خصوصاً أن المعارضة السورية المسلحة مصرّة على استعادة المدينة، في الوقت الذي ربما تندفع فيه قوات النظام باتجاهها، ما قد يدفع الصراع إلى مستويات خطيرة في حال لم تتبلور تفاهمات جديدة تحسم مصير هذه المدينة، وتجنب المنطقة ويلات مواجهة عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات. وتعدّ "وحدات حماية الشعب" الكردية، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تتهمه أنقرة بأنه النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني، وهو ما يقلق الجانب التركي الذي يهدد باجتياح الشمال السوري في منطقة شرقي الفرات وليس منبج فحسب، للحيلولة دون إنشاء إقليم ذي صبغة كردية في سورية.
من جانبه، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، أمس الأحد، دخول رتل عسكري تركي إلى الأراضي السورية، مؤلف من عشرات الجنود وأكثر من 50 آلية عسكرية، بعضها شاحنات وحاملات جنود وبعضها الآخر آليات تحمل على متنها عربات مدرعة، إضافة إلى الذخيرة. وأشار إلى أن الرتل اتجه نحو ريف منطقة منبج، على خطوط التماس مع مناطق سيطرة "قسد" وقوات التحالف الدولي، مشيراً إلى تصاعد وتيرة الاستعدادات العسكرية من جهة "قسد"، تحسباً لأي عملية عسكرية أو هجوم قد تنفّذه القوات التركية في المنطقة، الواقعة في غرب نهر الفرات.
بموازاة كل ذلك، لم ينتظر النظام طويلاً، بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب قوات بلاده من سورية، فبدأ يحشد عسكرياً بشكل كبير في شرقي البلاد، في محاولة لانتزاع ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات من "قوات سورية الديمقراطية" في حال الانسحاب الأميركي. وذكرت وسائل إعلام تابعة للنظام السوري أن قوات وحشوداً عسكرية بدأت بالتحرك من المنطقة الوسطى في البلاد باتجاه الضفاف الجنوبية لنهر الفرات، وتحديداً إلى منطقة الصالحية قرب البوكمال على الحدود السورية العراقية. ونقلت وكالة أنباء روسية عن مصدر عسكري في قوات النظام قوله إن "هذا التحرك يمهد لإطلاق عملية عسكرية ضد جيوب وبقايا تنظيم داعش في المنطقة"، مشيراً إلى أن هذه القوات ستنتهي من تمركزها على الجبهات خلال الأيام القليلة المقبلة، قبل أن ينطلق العمل العسكري الذي قد يكون باتجاه منطقة هجين في ريف دير الزور شرق نهر الفرات.
وكانت مصادر معارضة قد أكدت، لـ"العربي الجديد"، أن سهيل الحسن، التابع للروس، توجّه نحو ريف دير الزور الشرقي برتل كبير، يضم 800 مسلح، إضافة الى دبابات "تي 90" وراجمات صواريخ روسية و11 قاطرة شحن مدنية لحمل الذخيرة وأربع عربات قيادة لإدارة العمليات، ترتبط بقاعدة حميميم بشكل مباشر. ولا تزال "قسد" تخوض اشتباكات مع تنظيم "داعش" شمال نهر الفرات منذ العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، سيطرت خلالها على بلدة هجين معقل التنظيم في ريف دير الزور الشرقي. ومن المتوقع أن توقف هذه القوات المعركة مع التنظيم والانسحاب من ريف دير الزور الشرقي، في حال قيام الجيش التركي بأي عمل عسكري ضدها، سواء في منبج أو في منطقة شرقي الفرات، وهو ما يفتح الباب أمام قوات النظام للقفز إلى شرقي الفرات من بوابة محاربة التنظيم، ومن ثم التطلع للسيطرة على آبار البترول في ريف دير الزور الشرقي التي تسيطر عليها "قسد"، التي تبدو الخاسر الأكبر من القرار الأميركي.