لم تكن واشنطن تعتقد، حتى في أسوأ الحسابات، أنها لن تجد إلى جانبها سوى ثماني دول، من بينها إسرائيل، في حين أن البقية الباقية تكاد تكون غير معروفة مثل جزر مارشال وبالايو وميكرونيزيا، في حين وقفت على الحياد 35 دولة وامتنعت عن التصويت، أغلبها وقع تحت سيف التهديد والابتزاز بقطع المساعدات الأميركية، مثل رومانيا وبولندا ورواندا والبوسنة.
حاز القرار على نسبة من الأصوات تجاوزت ثلثي أعضاء الجمعية ( 128 من أصل 193)، وأيدته الدول العربية كافة، وأغلبية مطلقة من الدول الإسلامية وأوروبا الغربية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، الأمر الذي يسجل افتراقاً مع السياسة الأميركية الحالية لم يسبق له أن حصل إلا في بعض المنعطفات الكبرى مثل الحرب على العراق عام 1991 واحتلال العراق عام 2003، وحتى في ذلك الوقت كانت بعض دول أوروبا الغربية ذات الثقل النوعي مثل بريطانيا إلى صف الولايات المتحدة.
وهذا الوضع الجديد يعني أمرين: الأول أن الولايات المتحدة وضعت نفسها في موقع الشريك لإسرائيل، وتنازلت عن دور الوسيط في عملية السلام الذي قامت به الإدارات الأميركية السابقة منذ مؤتمر مدريد عام 1991. والثاني، أن دول العالم نأت بنفسها عن الولايات المتحدة في هذا الخيار، وطالما أنها صوتت في الجمعية العامة تحت بند "متحدون من أجل السلام"، فإنها ملتزمة بعدم خرق القرار وملزمة باحترام بنوده.
ليس للقرار مفعول يبطل من الناحية القانونية قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو وقف نقل السفارة الأميركية للقدس، ولكنه وضع أميركا وإسرائيل أمام موقف دولي يرقى إلى الالتزام الكوني بأن تغيير وضع القدس بقرار أميركي إسرائيلي مرفوض، وسيبقى قراراً أحادياً.
ويرسل القرار رسالة صريحة للصهاينة العرب الجدد الذين بدأوا يطلون برؤوسهم في الآونة الأخيرة، وهم يروجون لصفقات مع اسرائيل برعاية ترامب، ويوجه صفعة قوية لأولئك الذين صاروا يجهرون بأن فلسطين باتت قضية هامشية يجب ألا تشكل موضوع خلاف بين العرب والولايات المتحدة، وقد عبر عن هذا صراحة وزير خارجية البحرين، خالد بن أحمد آل خليفة، بتغريدة له قبل عرض مشروع القرار في الجمعية العامة، وقال: "ليس من المفيد افتعال مشاكل مع الولايات"، ورأى الوزير الذي ينعم بحماية الأسطول الخامس الأميركي أن الأولوية هي لمواجهة خطر إيران.
وتقدم المواجهة في الجمعية العامة درسا بليغا لبعض العرب الذين يشدون ظهورهم بترامب من أجل الابتزاز، كما هو حاصل من طرف مسؤولي الإمارات والسعودية والبحرين ومصر.
ويأتي درس، أمس، ليؤكد على دروس الأيام السابقة، وعلى هؤلاء أن يفهموا، أنه ليس لدى ترامب حلفاء سوى إسرائيل، ولن يعمل إلا من أجل مصلحة إسرائيل، وهذ ليس اتهاما له، بل هو لا يكف عن التصريح بذلك، وتكفي الطريقة التي تصرفت بها المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، وتحقيرها الجمعية، وهو ما سمح لممثل إسرائيل بأن يخرج عن الأدب ويصف الدول المجتمعة بأنها "دمى"، وأن "مصير القرار مزبلة التاريخ"، وذلك قبل التصويت وليس بعده.
والذين يظنون أن ترامب سيحميهم من خطر تمدد المشاريع الإيرانية عليهم أن يقيسوا الأمور بطرق مختلفة، تعتمد قبل كل شيء على تفاهم أهل المنطقة على تحديد الأولويات، وفي طليعتها التهديد الخارجي، ويجدر بهؤلاء أن يوفروا ملياراتهم وألا ينفقوها من أجل شراء رضى ترامب الذي لا يقدم ولا يؤخر.
ومهما يكن فإن السلطة الفلسطينية عليها أن تقدّر أهمية هذه اللحظة التاريخية، وتستوعب أن العالم صوت من أجل حل للقضية الفلسطينية على أساس القانون الدولي، وهذا يتطلب منها أن تجري مراجعة شاملة لمسيرة التنازلات التي أوصلت الحال الفلسطيني إلى ما هو عليه من خلال قبولها لأن يصبح أوسلو غطاء للتنازلات التي لا تنتهي.
هناك فرصة أن تتوقف قاطرة التنازلات فالموقف الدولي الجديد يشد من عصب الموقف الفلسطيني ويسلح السلطة بقوة جديدة، ولذا صار أمام السلطة فرصة لأن تتحرك في اتجاه الحصول على اعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وإلا فإن الاحتلال سائر في اتجاه تعزيز نظام الأبارتهايد بديلا لحل الدولتين.