روسيا و"متلازمة الأطلسي": من يطلق الرصاصة الأولى؟

07 مايو 2016
قوات أميركية في ألمانيا (ماتيي ديفيزنا/Getty)
+ الخط -
تدلّ مختلف التجارب المتلاحقة على روسيا البوتينية أن العقل الروسي الحديث، ينطلق في سياسته الخارجية من ثابتة أساسية في كل ملفاته الجيوبوليتيكة: حلف شمال الأطلسي ومن خلفه الولايات المتحدة. عليه، يُمكن "فهم" تصرّفات روسيا الاستفزازية العدوانية أحياناً في بعض دول الشرق الأوروبي وسورية: "متلازمة الأطلسي" تؤرق موسكو لدرجة تخصيصها معظم سنوات عهود الرئيس فلاديمير بوتين، منذ عام 2000 حتى اليوم، لمصلحة مواجهة الحلف.

على الرغم من الخطوة البروتوكولية الأخيرة بين روسيا وحلف الأطلسي، في 20 إبريل/نيسان الماضي، حين انعقد المجلس الروسي ـ الأطلسي، للمرة الأولى منذ عامين، إلا أن الأمور لا تزال تتدهور بين الطرفين. وقد كشفت معطيات عدة في الأيام الماضية، مدى خطورة الوضع بين الروس والأطلسيين.

بدأ كل شيء يوم الأربعاء، مع تولّي الجنرال الأميركي كورتيس سكاباروتي، قيادة قوات الأطلسي في أوروبا، وهو المعروف بمواقفه الحادّة تجاه الروس. وقد سبق لسكاباروتي أن كشّر عن أنيابه باكراً، في إبريل الماضي، بالقول إن "روسيا في خضمّ نهوضها، تريد مزيداً من السلطة وتتبنّى سلوكاً يزداد عدائية".

ردّ موسكو لم يتأخر، لا سياسياً ولا عسكرياً. قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف: قلنا مراراً إن تنامي قوة روسيا ليس تهديداً لأي طرف، لكن روسيا بالتأكيد لن تتجاهل أي أفعال تُشكّل تهديداً مباشراً أو محتملاً لمصالحها القومية، على حد تعبيره. مبدأ "عدم التجاهل" عبّر عنه بوضوح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بإعلانه أن "موسكو ستنشر ثلاث فرق عسكرية جديدة في غرب وجنوب البلاد بنهاية العام الحالي، لمواجهة قوات الحلف الأطلسي القريبة من الحدود".

بالتالي ليست أوكرانيا ولا البلطيق ولا سورية، سوى محطة من محطات جعلت روسيا نفسها من خلالها في موقع تنافسي مع الأطلسي. طالما عملت موسكو في كل حين على "درء مخاطر" الأطلسي، في مناطق نفوذها الغابرة. وانتقلت من الدفاع إلى الهجوم في جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014) وحتى أن هجومها في سورية (2015)، يُصنّف في إطار "حماية النفوذ الروسي". هنا وجّه الروس رسائلهم العسكرية، التي يعلنون فيها جهوزيتهم لأي اشتباك عسكري مع الأطلسي. بالنسبة إليهم، وقبلهم السوفييت، فإن "الأطلسي هو كشافة الأميركيين في أوروبا"، بالتالي فإنهم يعملون وفقاً لهذه القاعدة.

صحيح أن الاعتراضات العسكرية الروسية للبوارج والطائرات الأميركية في البحر الأسود وبحر البلطيق في الأسابيع الأخيرة، تبقى حوادث خطيرة، إلا أنها لن تتحوّل إلى اشتباك أو حربٍ بينهما لأسباب كثيرة، انطلاقاً من تفاهمهما على مختلف القضايا الرئيسية من سورية إلى أوكرانيا، أما ما عداه فتفاصيل ثانوية، يُمكن إدراجها في خانة تحسين الموقع الدبلوماسي لكل منهما. بالتالي فإن الأطلسي، يُعدّ "الخصم الأساسي" للروس، وليس الأميركيون.

للبلطيق أهمية كبرى روسياً، لكن الأولوية أساساً للبحر الأسود، وهو ما ظهر في ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، في مارس/آذار 2014، وفي منعها تحوّل خط أنابيب نابوكو النفطي إلى حقيقة، بفعل اجتياحها جورجيا عام 2008. وقد كان مقرراً أن ينبع نابوكو من شواطئ أذربيجان في بحر قزوين، وصولاً إلى أوروبا، مروراً بجورجيا والبحر الأسود. مع العلم أن جورجيا سعت مراراً للانضمام إلى الأطلسي، من دون جدوى.

كما أظهر الروس نواياهم، بعد ضمّ القرم، بدعمهم انفصاليي حوض دونباس الأوكراني (إقليمي لوغانسك ودونيتسك)، فسيطرت موسكو عملياً، على مداخل أوكرانيا في البحر الأسود، شرقي القرم، قبل أن تباشر في بناء جسر فوق مضيق كيرتش الروسي، يربط بين سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، وبين شبه جزيرة تامان في كراسنودار، شرقي روسيا. وتعني هذه الخطوة إقفال إطلالة أوكرانيا على بحر آزوف، واستطراداً البحر الأسود، شرقي القرم. مع العلم أيضاً أن أوكرانيا سعت بدورها للانخراط في صفوف الأطلسي.

لم تتوقف المساعي الروسية هنا، بل يبدو أن الروس يطمحون لتحويل أوكرانيا إلى "بلاد من دون بحر"، ففي ليل 25 ـ 26 إبريل/نيسان الماضي، هاجمت مجموعة من 50 انفصالياً مبنى حكوميا في منطقة أوديسا الساحلية، في خطوة يُمكن تفسيرها على أنها "توسيع محاولة بسط النفوذ الانفصالي الآتي من الشرق"، والمدعوم من روسيا. مع العلم أن أرض أوديسا خصبة لأي اشتباكات، على خلفية قصتها الدموية، التي بلغت ذروتها في 2 مايو/أيار 2014، بسقوط 48 قتيلاً وجرح 247 آخرين، معظمهم من الموالين لروسيا، على يد يمينيين أوكرانيين، في مجزرة هي الأقسى بعد مجازر الشرق.

لكن أحداث أوديسا الأخيرة، لم تُغطِّ على الهدف الرئيسي لخطوة روسيا، إذ إنه وعلى المقلب الآخر من حدود المقاطعة الأوكرانية، تقع مولدوفا، وإقليمها ترانسنيستريا، الذي يشبه في خصائصه منطقة دونباس الأوكرانية، تحديداً لجهة "روسيّته" لغة وقومية. تُبدي روسيا استعدادها لتفعيل دور الإقليم مستقبلاً، وتجلّى ذلك في قطع المعارضة المولدوفية، المقرّبة من روسيا، الطريق على 200 جندي أميركي وفدوا إلى البلاد للمشاركة في مناورات عسكرية مع الحكومة، مطلع الشهر الحالي. وتشابهت شعارات من نوع "مولدوفا دولة محايدة" و"لا نريد الأطلسي" و"لا لقواعد الأطلسي"، مع شعارات مؤيدي روسيا في جورجيا وأوكرانيا في السنوات الماضية. يهمّ روسيا توضيح أن البحر الأسود تابع لها، وذلك لتأمين عدم مرور أي خط نفطي من الشرق إلى أوروبا، ما لم تكن موافقة عليه.

هذا في البحر الأسود، أما في البلطيق، فيبدو أن الوضع أكثر "جدّية" في ظلّ مناورات أطلسية كبيرة انطلقت في أستونيا، يوم الاثنين، وتستمرّ حتى 19 مايو/أيار الحالي. المناورات التي تحمل اسم "عاصفة الربيع"، ويشارك فيها ستة آلاف جندي من قوات الأطلسي، تُقلق الروس، لكنهم أظهروا سابقاً أنهم "احتاطوا" لهذا الأمر، عبر انتهاكاتهم المتواصلة للأجواء والبحار السويدية والنرويجية والدنماركية والفنلندية، فضلاً عن تمركز قطعات عسكرية كبيرة لهم في كالينينغراد الروسي، المنفصل جغرافياً عن روسيا، لوجود ليتوانيا من جهة، والبعيد عن "الحليف" بيلاروسيا، لوجود بولندا بينهما.

ومع أن الأطلسي وروسيا، أعادا تفعيل المجلس الأطلسي ـ الروسي المشترك، إلا أنهما باتا أمام واقع حتمي، ينبثق من أبسط القواعد العسكرية المتعارف عليها بين جيوش العالم: عدم إمكانية تعايش جيشين على أرضٍ واحدة، مهما بلغت قوة تحالفهما وحتى تماهيهما. لذلك، فإن مناورات الأطلسي الأخيرة تُزعج التنامي المضطرد للتواجد الروسي في الشمال الأوروبي، كما تصبّ في سياق عدم تحوّل المداخل الشرقية للقارة الأوروبية، من الشرق الأوسط (سورية ولبنان) وحتى أعالي البلطيق وصولاً إلى القطب الشمالي لجهة فنلندا، إلى مناطق نفوذ تابعة بالكامل لروسيا. مع ما يعنيه ذلك من العودة إلى موسكو في كل عقدٍ نفطي أو لخطوط الترانزيت التجارية.

كما أن الهموم الأطلسية لا تقف عند هذا الحدّ، فالدول الأوروبية التي تعاني من تنامي المدّ اليميني فيها، وما يواكبها من عودة "القومية" إلى أوروبا، تُهدّد تلاحم الأطلسي نفسه، الذي قد يجد نفسه مشرذماً، أو نسخة أفضل من "تجمّع الدول المستقلة" الذي نشأ على أنقاض 15 دولة من دول الاتحاد السوفييتي القديم عام 1991، ولم يستمرّ سوى لعددٍ من البطولات الرياضية، قبل أن يُصبح مجرّد ذكرى. وسط ذلك، قد يحتاج الأطلسي لمعركة خاطفة تُعيد تماسكه، وقد تُقدّم له روسيا مثل هذه المعركة.
المساهمون