محمد الحاج سالم لـ"العربي الجديد": هكذا يجنّد المتطرفون الشباب

14 مارس 2016
سالم: عوامل داخلية وخارجية ساهمت في انتشار التيار(العربي الجديد)
+ الخط -
تواجه تونس انخراط الآلاف من شبابها في صفوف التنظيمات المتطرفة. المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، قام بإعداد دراسة ميدانية، برئاسة محمد الحاج سالم، عما يسمى بالسلفية الجهادية، الذي يشرح في حديث خص به "العربي الجديد" بدايات السلفية الجهادية في تونس، مروراً بالعوامل التي ساهمت في انتشار هذا التيار.

* كيف بدأت السلفية الجهادية في تونس؟
قصة السلفية الجهادية في تونس بدأت تقريبا ما بين 1975 و1976، حين كانت هناك مجموعة مسلحة في الجزائر يرأسها شخص اسمه بو يحيى، أثبتت بعض الأبحاث أنها قامت ببعض العمليات المسلحة ضد الدولة، وتمت الإشارة في نفس السياق إلى ضلوع شخص أو اثنين من تونس في تلك العمليات، لكن لم تتم محاكمتهما، لكونهما بقيا في حالة فرار وغير معروفين لدى السلطات التونسية. وبناء عليه يمكن أن نعتبر تلك اللحظة نقطة انطلاق، لأننا لم نسمع من قبل عن انتماء تونسي إلى تنظيم ديني يعتمد العمل المسلح إلى حدود اندلاع حرب أفغانستان، إذ حينها بدأ بعض التونسيين يحاولون الالتحاق بالجماعات المسلحة التي كانت تعتبر نفسها في حالة جهاد ضد السوفييت.
المؤكد من الناحية التاريخية أن هذه الظاهرة برزت مع أول مجموعة مسلحة ألقي القبض عليها على إثر تسللها من الجزائر، والتي تعرف بمجموعة "سليمان" بقيادة عنصر سابق في سلك الحرس الوطني (فرقة الطلائع)، وربما كانت تنوي إقامة معسكر تدريب في جبال تلك الجهة القريبة من العاصمة، وقد تكون خططت لتنفيذ عمليات، وهو ما أثبتته الأبحاث. هذه المجموعة التي تم قتل بعضها حين تدخل الجيش والحرس الوطني، وسجن العشرات إن لم نقل بعض المئات من عناصرها أو المتعاطفين معها.


اقرأ أيضاً بنقردان تروي حكايات "الإثنين الأسود": حرب حقيقية ضد الإرهاب

* ما هي أبرز العوامل التي ساعدت على انتشار هذا التيار؟
علينا أن نستحضر ما كان يعيشه العالم في تلك الأيام، وخاصة الأحداث المظلمة التي تعرض لها الشعب البوسني، ومشاركة عدد ممن كانوا يسمون بـ"المجاهدين العرب" في هذه الحرب، إلى جانب حرب أفغانستان. لقد أدت تلك الأجواء إلى استقطاب عدد من الشبان التونسيين أغلبيتهم الساحقة كانوا يعيشون بالخصوص في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، وهي مسألة تستحق التوقف والتحليل، لأنه حتى العمليات الإرهابية التي حصلت قبل 3 سنوات، خاصة اغتيال شكري بلعيد، فإن الذي قام بها عنصر قضى 5 سنوات في الولايات المتحدة أو في فرنسا. أبو عياض نفسه، وكذلك أبو أيوب تربيا خارج تونس وكانا متورطين في قضايا إرهاب، وأطلق سراحهما إلى جانب آخرين بعفو خاص، وكل هذا يجعل بعض الأسئلة تحوم حول هذا التصرف.

* يعني أنت تعطي الأهمية الكبرى في عملية الظهور والتطور لعامل خارجي؟
العامل الخارجي أساسي، لكن مثل كل مرض، إن جاز التشبيه، لا بد أن تكون هناك استعدادات للجسم لتقبل الفيروسات. من ذلك ما اصطلح عليه بالتصحر الثقافي والديني، فالاندماج في عالم التدين قد يعرض صاحبه للقمع، وهو ما يولد لديه الإحساس بالمظلومية، خاصة أن الولايات المتحدة وقفت ولا تزال ضد هذه الحركات في مصر وكينيا والصومال واليمن وغيرها. كما تعتبر قضية فلسطين مهمة في تغذية الشعور بالمظلومية.

* كيف تمكنت جماعة "أنصار الشريعة" من التوسع داخل الأحياء الشعبية؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أنه بعد الثورة ارتفع سقف الحريات، وتوفرت حرية التدين، وتشكيل الجماعات والأحزاب، وهو عامل مهم جداً في هذا المنعرج الذي اتخذته هذه الجماعات من العنف. لكن صحيح أن آلة القمع سقطت، غير أنها سقطت إلى حين. كانت هناك دعوات موجهة من قيادات في الخارج على مستوى تنظيم القاعدة على وجه الخصوص، يؤكد مضمونها أن هذه الثورة إسلامية، كما أن حالة الانفلات الأمني والاجتماعي لعبت لصالح هذه الجماعات التي كانت بعد الثورة تتشكل بكل سهولة وخارج كل رقابة مجتمعية وأمنية، أي أن كل الظروف كانت متاحة لتوفير حاضنة شعبية لها، بحجة أنها قدمت حزمة من الأجوبة التي تعتقد بأن المجتمع والدولة عجزا عن تقديمها وهو ما ولد الانفجار.
وبالتالي فإن عملية الانتظام الأيديولوجي والتشكيلة الاجتماعية التي ستعبر عنها الردود الجهادية كانت جاهزة: بطالة، وتهميش، فقر روحي وفقر مادي وفقر معرفي، وعندما تجتمع هذه الأنماط الثلاثة للفقر يصبح الشباب المهمش والمقصي مهيئا للاعتقاد بأنه لا توجد إمكانية لتغيير الواقع إلا بفعل عنيف يكسب هذه الفئات المقهورة داخليا وخارجيا معنى جديدا. ولم يكن من باب الصدفة أن معظم هؤلاء كانوا من أحياء شعبية وأبناء مناطق داخلية مهمشة.
هؤلاء الشباب محتاجون إلى الانتماء إلى جماعة تنقذهم أولاً من براثن الفقر الروحي وتشعرهم بالانتماء والقوة والإحساس بالتضامن، كما تخلصهم من الفقر المعرفي فتجعل منهم "مفتين" بمجرد أن يطلعوا على هذه الأيديولوجيا وقراءة بعض البيانات والكتب والأشرطة. ويصبح لهذا الانتماء بصمة على ثيابه ورائحته وأقواله ومظهره (لحية وجلباب)، فيبدو كأنه قد انتقل إلى مجتمع جديد بصدد التمخض والولادة من رحم المجتمع القديم المتهالك والذي يجب الإسراع في الإجهاز عليه.
هذا الأمر يجعل لدى الشاب البالغ 17 أو 18 سنة مشروعاً وهدفاً في حياته، وعلى المستوى الآني يحل له الكثير من مشاكله السابقة: يبعده عن الكحول والمخدرات، ويجنبه الانحراف السلوكي ويسهل أمامه سبل الزواج، إذ يمكن له أن يتزوج بـ100 دينار فقط (50 دولاراً)، بعد أن يستأجر بيتا بغرفة، وأما الوليمة فيقوم بها الإخوان.
كذلك البطالة ممكن معالجتها بسهولة، إذ رأينا مشاريع مثلا في الحي الشعبي "دوار هيشر"، حيث يدفع كل أخ 50 ديناراً، ثم تنصب على قارعة الطريق بضاعة مختلفة من غلال وخضر وملابس تخدم النمط المجتمعي الخاص بهذه الجماعات، أي أن العضو الجديد يجد وراءه عصبية تحميه من الفقر، ومن البوليس ومن المنحرفين، فكل من يتعرض لمشكلة يجد وراءه 300 نفر يتحركون بمجرد الإشارة ليخلصوه من معتد عليه أو من ديون في ذمته. هكذا تتسع الشبكة وهو التضامن الذي ينقص هذا الشباب. كان الواحد منهم مبعداً، وغير معترف به، فإذا به يصبح في حضن دافئ يوفر له غذاء "عقلياً وروحياً"، أي أن معظم مشاكله تقريباً تحل في ظرف لا يتجاوز 6 أو 7 أشهر. إنها حركة اجتماعية أكثر منها حركة سياسية.

* هل كانت الأحياء الشعبية مهيئة لتغذي هذا التيار بهذه القوة والسرعة؟
هذا هو السؤال، هناك شروط موضوعية على الأرض، وأخرى ذاتية، بمعنى أنه لا بد أن يتقابل تاريخ شخص ما مع وضعية اجتماعية اقتصادية وسياسية معينة كي يولد هذا الشخص الذي سيصبح عضواً نشيطاً في هذه التنظيمات.
تعيش الأحياء الشعبية بالعاصمة درجة عالية من التهمش، وهي توجد على هوامش هوامش الحضارة... تنقصها مستوصفات وكل ما يمكن أن تحتاجه المدينة، وحتى المركز الحضري هذا ينشأ مشوها.
في فترة السبعينيات كانت لهذا الشباب آفاق، عليه أن يجتهد لكي يحصل على شهادات تعليمية تفتح له أبواب العمل. أما الآن فشاب الحي الشعبي إن أمكن له أن يدرس فإن معظم العائلات تعاني من مسألة عدم الاندماج في المدينة وعدم اندماج أطفالها في المدارس، حيث تتسع ظاهرة الانقطاع المدرسي المبكر ويكثر الانحراف. فعدم الاندماج المدرسي يولد عدم اندماج اجتماعي، وكذلك عدم وجود رأس مال رمزي يتم تصريفه في سوق الشغل. يمكن أن يبقى شاب سنة كاملة أو سنتين لا يذهب إلى أي مسرح لأنه شخص محتقر، ولأنه مطارد من قبل البوليس. فدور الشباب والثقافة لم تقم بوظيفتها، كذلك الشأن بالنسبة للمدارس والمؤسسة الدينية لم تقم بدورها، وهذه الظروف تجعل هؤلاء الشباب يتبنون هذا "المشروع الجهادي".

* كيف تفسر حجم خريجي السجون في هذه الظاهرة؟
لا بد من التمييز بين أمرين، هما في الحقيقة متداخلان في ظاهرة مشاركة خريجي السجون في هذه الحركات. هناك منحرفون "تاب الله عليهم"، وتمكن السلفيون الجهاديون من استقطابهم بإقناعهم بضرورة التوبة وفوائدها. وهناك من جهة أخرى المنحرفون الذين استغلوا فرصة ولادة الظاهرة لحماية أنفسهم وتوفير عصبية لهم، يكفي أن تعلن توبتك وتنخرط في هذه الجماعة، ويمكنك أيضا إيجاد فتوى تبيح لك بيع المخدرات كي تكسب مالاً تصرف به على الجماعة. توجد فعلا عملية انتداب داخل السجون، وهناك عناصر كثيرة من مساجين الحق العام تعرفوا على "السلفية الجهادية" من داخل السجون عن طريق رفع معنوياتهم وإشعارهم بالطمأنينة وتقديم الوعود لهم بتوفير الشغل والحصول على مساعدات بعد مغادرة السجن.

اقرأ أيضاً السلفية الجهادية في تونس: مغالطات وحقائق


* لماذا اعتبرت الفقر والتهميش الاجتماعي هو العنصر المحدد لهذه الظاهرة رغم وجود أعضاء بها من فئات اجتماعية متوسطة ومنهم من ينحدرون من طبقات مرفهة؟
هذا نقد صحيح. لنوضح بعض المسائل:
1- حين نتحدث عن ظاهرة اجتماعية فهي لا تشمل جميع السكان. يكفي أن تتحقق شروطها في 60 أو 70% حتى يمكن لنا تعميم نتائجها. وبالتالي ليس كل شباب المناطق المهمشة والأحياء الشعبية ينتمون إلى هذه الظاهرة.
2- حين نصنع نموذجاً مثالياً كي نقيس به، نحن نحلل الظاهرة، نستخرج أكبر سماتها ونقول حين تتحقق هذه الشروط أو السمات في فلان هو ينتمي إلى كذا. قد تكون لدينا 7 أو 6 شروط ولا يتحقق منها سوى 5 فقط. يعني عندما أقول إن الفقر المالي والروحي والمعرفي إلى جانب السكن في حي شعبي على التخوم والانحدار من عائلة فقيرة والانقطاع المبكر عن الدراسة، يعني كل هذه الشروط الاجتماعية تضاف إليها الشروط النفسية، لا تؤدي ميكانيكيا إلى ولادة إنسان عنيف أو إرهابي لكنها متحققة في 70 أو 80% من الذين انتموا إلى هذا التيار، عندها يصح الحديث عن وجود ظاهرة اجتماعية.
3- هناك في الحالة التونسية بعض المنتمين إلى شرائح ثرية أو ميسورة. قد تكون دوافعهم ليست اجتماعية اقتصادية بقدر ما هي نفسية ثقافية، بمعنى الحاجة إلى الاعتراف، منهم من يعيش حالة تفكك أسري أو صعوبة الانتقال من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ الاجتماعي، لكن هذه الحالات نادرة ولا تمثل الظاهرة، ومعظم من حوكم في تونس بتهمة الإرهاب ينتمون إلى الأحياء الشعبية.

* هل عايشنا ظاهرة اجتماعية خاصة لا شبيه لها في بلدان أخرى؟
المسألة لا تتعلق باعتناق هذه الأيديولوجيا والانخراط في عمل سلمي أو عنفي بغرض تغيير المجتمع وطبيعة الدولة. المسألة تتعلق بوجود انحراف عن المعايير الاجتماعية والدينية المعتمدة من قبل المجتمع ككل. قد يتخذ هذا البعد الانحرافي منحى سلوكيا أخلاقيا: تعاطي الكحول، المخدرات، الجنس، الدعارة، السرقة، الخطف الخ. وقد يكون هذا العنف يعبر عن نفسه من خلال تبني هذه الأيديولوجيا. التفسير الوحيد لهذا التشابك والتداخل بين الظاهرتين وسهولة الانتقال بينهما وجود قابلية للانحراف السلوكي إن جاز التعبير، ودينيا عند شريحة معينة من الشباب. لقد سعينا في سبيل تحليل هذه القابلية، بالاعتماد على التحليل السوسيولوجي وليس التحليل الأمني، فذاك شيء مختلف. هناك قابلية لدى شباب الأحياء الشعبية للانحراف سلوكيا أو عقائديا، فالأيديولوجيا السلفية تتمتع بقوة جذب للمنحرف سلوكيا حيث تحقق له بعض الرغبات المادية وتأخذه إلى عالم آخر "روحاني" إلى جانب عالم الجماعة، كما تمكنه من استخدام العنف في سبيل هدف "مقدس". فبعد أن كان هذا الشخص يستخدم العنف في سبيل غاية مستهجنة من قبل المجتمع يمكنه الآن أن يستخدمه من أجل هدف سام يوفر له أجرا وثوابا عند رب العالمين ويدخل به الجنة. إذن الإشكالية لا تتعلق بالانتماء إلى تيار ديني سياسي بل تتعلق بهذا الانحراف المعبر عنه سوى سلوكيا أو المعبر عنه دينيا باعتماد هذه الأيديولوجيا.
في نهاية الأمر، هذه الفكرة أصبحت قادرة على أن تحول مجرما من وضعية هامشية كمنبوذ من طرف المجتمع، إلى عنصر قيادي مدمج في جماعة وله هدف في حياته يسعى إليه. الفكرة لها قوة.

* ماذا كان الهدف من وحدة دراسة هذه الظاهرة؟
أردنا من خلال الاشتغال في الوحدة التي كنت أشرف عليها في المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن نجترح نظرية يمكنها تفسير هذه الظاهرة وهذه القابلية، والتي سميناها نظرية العطوبة الاجتماعية. هذه العطوبة تبرز في المرحلة الوسطى بين الانفكاك التام عن المجتمع الأصلي وبين الاندماج فيه. فهو في نفس الوقت منفك عن المجتمع الأصلي أو يتوق إلى ذلك فيذهب إلى الكحول والمخدرات ويعتدي على المجتمع نفسه، وهناك شيء ثان يجذبه لكي يندمج في المجتمع وهي عائلته وأشياء أخرى، وهذا العنصر مهم جدا للتمييز بين الانتماء مثلا لحركة النهضة والانتماء لهذه الجماعات العنيفة. فالانتماء إلى النهضة هو انتماء عائلي بمعنى أن الأسرة كلها تجدها تحمل نفس الولاء، بينما الانتماء في هذه الجماعات يتم بصفة فردية، ولهذا معظم العائلات فوجئت بأن ابنها سافر إلى سورية أو ألقي عليه القبض في عملية إرهاب. ومعظمهم يشتكون من عائلاتهم التي لا تتركهم يندمجون في هذا التيار.
لا بد من اجتراح نظرية تفسر كل هذا، فالسلفية الجهادية لماذا لم تنتجها تونس في فترة السبعينيات أو الثمانينيات بل أنتجتها الآن في الألفية الثالثة؟ لو استقرأنا التاريخ ورجعنا 40 سنة إلى الوراء، لكان بعض هذا الشباب قد اختار أن يكون يساريا ماركسيا. هنا نأتي إلى مسألة قوة الأيديولوجيا الآسرة والجذابة، فهي على غرار الحركات الفوضوية أو الثورية الماركسية تبشر بعالم جديد، وتعتبر العنف المحرك للتاريخ سواء كان عنفا ثوريا أو رجعيا. هناك أيضا سمة ثالثة وهي التبشير بجنات، هذا جنته أرضية شيوعية والآخر جنته عند رب العالمين. هذا عنده كتاب ونبي وشهداء مقدسون وقديسون، وهذا عنده كتاب ونبي وشهداء.
نأتي الآن إلى المضمون الأيديولوجي: إن كان هناك درس نستوعبه من ظاهرة تشكل هذه الجماعات فهو ما سميناه بالتكثف الأيديولوجي، فإن قررت أن تصبح ماركسيا عليك أن تقرأ كتب ماركس ولينين خلال بضع سنوات لتتشبع أيديولوجيا، إن أردت أن تصبح إسلاميا فأنت مطالب بنفس الشيء، عليك أن تحفظ ما تيسر من القرآن وعلوم الحديث والقرآن، وصولا إلى كتب راشد الغنوشي، وكي تستوعب لا بد من 3 أو 4 سنوات.
الحالة مختلفة في الظاهرة "الجهادية"، وهذا سر قوتها. أيديولوجيتها مكثفة وتقوم على فكرتين أو ثلاث فقط يتم استيعابها، ويمكنك أن تصبح منتميا لهذا التيار وهما عقيدة الولاء والبراء. الولاء للمسلمين والبراء من الكفار. أما الفكرة الثانية فهي التعبير عن هذه العقيدة عن طريق العنف وهو جهاد التغيير باليد قبل اللسان. هل هناك أسهل من هذه النظرية؟ وبالتالي كل ما هو غربي فهو كافر وكل ما هو دين الإسلام هو مسلم في مرحلة أولى، ثم داخل دين الإسلام هناك دول أكثر إسلاما من أخرى، وفي داخل نفس القطر هناك فئات أو جهات أقرب من البقية وصولا إلى الدائرة الضيقة، فأنت المسلم الكامل وغيرك على ضلالة حتى يثبت العكس. في ظرف أسبوع مع بضع آيات تؤيد ضرورة الجهاد المسلح يمكن أن تنتمي وتصبح عضوا في الجماعة. يسميها البعض ممن لا دراية له بعملية غسل الدماغ، لأن التحول يمر عبر ثلاثة مستويات: تشريط نفسي وتشريط ثقافي وتشريط جسماني. هذا بالنسبة للمنتدب حديثا لا بد أن تتوفر فيه شروط (تفكك أسري، حالة طلاق، الأب بطال أو سكير، يتيم حصل له انقطاع مدرسي)، أي خصائص العطوبة الاجتماعية التي توفر لديه هذه القابلية. ويتم تبنيه من الجماعة حيث يلقى حنانا وعاطفة فياضة وإحاطة بالرعاية بعد أن كان لا يكترث به أحد، وبعد أن كان مطاردا يجد من يتقاسم معه المأكل والمشرب. يقولون له "أمرك يهمنا"، وهذا على المستوى النفسي شيء عظيم جدا تخرجه من حالة الإحباط والسوداوية، ويكتشف داخل الجماعة القدوة ويهابه الناس.
ثم تأتي عملية التشريط الثقافي حيث يعلمونه قراءة القرآن وكيف يصلي ويلبس، أي كل ما يتعلق بأبجديات الثقافة الدينية. أما التشريط الجسماني، فينعكس على العمليات النفسية وعلى العملية الثقافية. يتعلم صعود الجبال والتدرب في ظرف 6 أشهر من خلال تنظيم سباقات في الدراجات والتسلق والفنون القتالية تحضيرا ليوم "الجهاد". وبالطبع لا ينجح الجميع، إذ هناك من يتخلف وهناك من يظهر لياقة جسمية عظيمة فيصبح من "المجاهدين" بأقصر الطرق، وهناك من يظهر استعدادات ثقافية مثلا، فيتلقى ثقافة شرعية خلال الدورات المخصصة للدعاة. وهناك من يقف في منتصف الطريق ويبقى من العوام.
هناك 3 فئات: فئة القادة وفئة الدعاة وفئة العوام، والعامي يتم إدماجه نفسيا وثقافيا وجسميا بالطريقة التي تحدثنا عنها كي يصبح داعية بعد مدة معينة. ثم عندنا القادة في تونس عددهم قليل، لهذا يتوق العوام ليصبحون دعاة. والداعية يجتهد لكي يكون قياديا.. وإذا ارتقى فلان إلى مرتبة القيادة فإن مؤهلاته وحدها لا تكفي، بل يجب أن يحظى برضاء الجماعة أو قسم منها، وهو يفتح المجال للانشقاق: مشاحنات أبو أيوب ضد أبو عياض، وأبو عياض ضد الخطيب الإدريسي ..إلخ. .

* كيف يجب التعامل مع هذه الظاهرة؟
في غياب مشروع مجتمعي مواطني كامل الشروط وواضح الملامح، وإن لم تتوفر القدرة على تجنيد هذه الطاقات الشبابية في سبيل إنجاز مشروع ما، بدون ذلك سنبقى نكرر إنتاج نفس الظروف الموضوعية المنتجة لهذه الظواهر السلبية. أتحدث عن الانحراف بوجهيه السلوكي والتسيب الديني. قد نتغلب على بعض مظاهر الانحراف الديني لكن هذا لا يعني بأننا سنتغلب على مظاهر الانحلال الأخلاقي. ولا ننسى أن المغذي الأول للانحراف الديني هو الانحراف الأخلاقي. بالنسبة للمغذي الأول يعني أن إنسانا سويا لا يمكنه أن ينتمي إلى هذا التيار، إذ لابد أن تكون فيه بذور الانحراف أو على الأقل بعض التوق إلى الانحراف بسبب ظروفه النفسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي سنكون أمام سارق مجرم بائع كحول أو في الحالات الثانية أمام قاتل أبناء شعبه. البعض يتحدث عن مراجعات وهذا مهم ، البعض يتحدث عن حلول أمنية هذا صحيح إلى حد ما، لكن ما لم تتم معالجة العطوبة الاجتماعية في حد ذاتها لن نصل إلى معالجة المشكل في حد ذاته.

اقرأ أيضاً: "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية": أسئلة الحرية والمدينة العربية
المساهمون