تُعرف غرداية على أنها "المركز العمراني للإباضيين" الذين نزحوا إلى طرف الصحراء بعد انهيار الدولة الرستمية (776 ـ 909) في منطقة تيهرت غربي الجزائر. وصنع الإباضيون في غرداية مجتمعاً متميّزاً على الصعيد العمراني، إذ تُعرف غرداية بقصورها العتيقة ونمطها المعماري الخاص. كما ركّز الأمازيغ الإباضيون مجتمعياً مؤسسات عرفية ودينية، تحكم المنظومة الاجتماعية، أبرزها "مجلس العزابة"، و"مجلس عمي سعيد"، و"مجالس عرفية" تحكم المجتمع الإباضي وتسنّ قوانينه وتدير شؤونه الاجتماعية والدينية.
وظلّت هذه المؤسسات العرفية فاعلة حتى العقد الأخير من الألفية الثانية، وتسهر على مجالات التعليم الحرّ والمعاهد القرآنية وتُنظّم العمل التجاري والتكافلي أيضاً. كما كانت لها علاقة تفاهم مع السلطة في الجزائر، التي تفهّمت منذ الاستقلال (1962) الدور الإيجابي لهذه المؤسسات.
لكن غرداية تضمّ أيضاً كتلة سكانية أخرى من العرب الذين يتبعون المذهب الإباضي، إنما أقلّ تنظيماً على الصعيد الاجتماعي مقارنة بالكتلة الأمازيغية الإباضية. ولا تتوفّر فيها، عدا هيئة علماء المالكية، مؤسسات عرفية توفر قناة تواصل مع الكتلة الأمازيغية الإباضية، المنغلقة أصلاً على نفسها وفي أحيائها.
اقرأ أيضاً غرداية تستعيد سلامها: انتشار أمني كثيف
وظلّ أمازيغ غرداية يتحاشون التعاطي مع الشأن السياسي، ويجنحون إلى السلوك السلمي واستبعاد المشكلات، وهو ما فرض حالة من التعايش المفروض بقوة الدولة، بفعل واقع وجود "تجمّع سكاني" أكثر منه "تعايشا اجتماعيا". وأخفقت مؤسسات التعليم والعمل والفضاءات الجمعوية والحزبية في إنتاج "العيش المشترك"، وخلق مجتمع متجانس ومتعايش فعلياً. كما لم تحدث اختراقات على صعيد التزاوج بين الشعانبة (عرب غرداية) والمزابيين (سكان بني ميزاب)، والشعانبي لا يسكن في أحياء بني ميزاب إلا في حالات استثنائية ولا ينخرط في جمعياتهم، والعكس أيضاً.
ومع الأزمة الأمنية التي شهدتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، حدث نزوح سكاني إلى أطراف المدن الكبرى، وبينها غرداية، وزاد التوسع العمراني من الكتلة السكانية في المنطقة. لكنه أحدث خللاً في البنية المجتمعية وشرخاً في التماسك الاجتماعي الحاصل منذ عقود، بين الأمازيغ الإباضيين والعرب المالكية، وهدم التفاهمات بين الطرفين.
كذلك زادت حدة المشكلات الاجتماعية المتعلقة بالبطالة في البلاد، خصوصاً في أوساط الشباب العربي، في مقابل سيطرة الأمازيغ على السوق والتجارة في المنطقة، واستمرار النظرة النمطية إلى الميزابي الإباضي المتحدث بالأمازيغية الساكن في قصور الوادي منذ قرون، والناجح اقتصادياً، في مقابل "العربي البدوي الفقير المالكي" الذي يريد الدخول إلى الفضاء الحضري ليزاحم هذا الأمازيغي.
بدأ الشرخ يكبر وبدأت تتعدد معه الخلافات بين الطرفين، ذات البعد السياسي المتصل بنجاح كبرى أحزاب المعارضة وعلى رأسها "جبهة القوى الاشتراكية" بزعامة حسين آيت أحمد (أمازيغي) و"التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية" بزعامة سعيد سعدي (أمازيغي) إلى المنطقة وحصولهم على تمثيل شعبي وبرلماني ومحلي، وتمكّنهم من الفوز برئاسة بلديات في المنطقة.
وكان واضحاً أن الكتلة الناخبة التي مالت إلى هذين الحزبين المعروفين بمواقفهما الراديكالية من الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ومن السلطة ومن أحزابها الحاكمة، وعلى رأسها "جبهة التحرير الوطني"، كانت من الأمازيغ. بينما تنقسم الكتلة المقابلة من العرب نحو أحزاب السلطة أو الأحزاب الإسلامية، بالإضافة إلى الأبعاد والمسبّبات الاقتصادية والاجتماعية وبعض العوامل التاريخية، أسست جميعها لحالة تصادم دامٍ كان هو الأعنف حينها في عام 2008.
ولا ينفي الباحث في علم الاجتماع السياسي ناصر جابي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، وجود مشكلات تاريخية بين الطرفين في منطقة غرداية، ويُعيد الأزمة إلى "فشل النظام السياسي بمؤسساته ورجاله وخطابه، في تسيير التنوع الثقافي والاجتماعي واللغوي الذي تعرفه الجزائر، وكذلك فشله في تسيير التحوّلات التي أنجزتها الدولة الوطنية ومؤسساتها منذ الاستقلال على الأقلّ وفشل النظام السياسي في تسييرها، فما بنته الدولة يهدمه النظام ليس في غرداية فقط، بل في أماكن ومجالات أخرى".
ويضيف أن "أزمة غرداية تكشف لنا عدم خبرة النظام في التعامل مع كل القضايا المطروحة من الجزائريين، خصوصاً في المشاكل الاقتصادية المتعلقة بتوزيع قطع الأراضي التي اقتُرحت على المواطنين في غرداية منذ مدة، أو مناصب العمل المؤقت والدائم الذي اقترح على شباب الجنوب السنة الماضية، فالجزائري من وجهة نظر النظام لا يمكن أن يكون إلا في حاجة إلى عمل أو سكن".
إن ما تتفق عليه التحاليل الآن بشأن أزمة غرداية، متعلقة بالتراجع والفراغ الذي خلّفه تغييب المؤسسات العرفية، التي كانت تحكم المنظومة المجتمعية في غرداية، وإلغاء دورها، وتجاوزها من قبل السلطة، خصوصاً في العقد الأخير. ولم يعد أحد يستمع إلى مؤسسة الأعيان والمجالس العرفية التي كانت تحكم البنية الاجتماعية في المجتمع الأمازيغي الإباضي في غرداية.
كما أن هيئة علماء المالكية لم يعد لها أي دور، ليس بفعل تجاهل السلطة لدور وأهمية هذه المؤسسات في مجتمعات محلية كهذه، لكن أيضاً بفعل الطفرة التقنية التي أثّرت على عقيدة الجيل الجديد، وسمحت له بتجاوز الأفق الذي كانت تحدده هذه الهيئات.
لا تبدو أزمة غرداية في اتجاه الحل قريباً، ويعتقد الخبراء أن الحلول الأمنية التي تلجأ إليها السلطة في كل فترة، لم تكن أبداً نهاية للأزمة ولم تنه مسبباتها، ما دامت الظروف والمناخ المشحون هو نفسه. لكن ما يخيف أكثر في أزمة غرداية هو انعطافها إلى أزمة بأبعاد عرقية ومذهبية، قد لا تتوقف في غرداية فقط، وهي الأبعاد التي تضع الجزائر في دائرة الاستهداف الأجنبي بالضغط والتفتيت باسم حماية الأقليات والمجموعات.
اقرأ أيضاً: فتنة غرداية... الجزائر تقترب من الطوارئ