فرنسا... تاريخ معقد وطويل من الاستهداف "الجهادي"

01 يوليو 2015
أثناء القبض على ياسين الصالحي (فرانس برس)
+ الخط -
بعد يومين من الصمت، حيّرت تبريرات ياسين الصالحي، منفذ الهجوم على معمل للبتروكماويات في بلدة سانت كونتان فالافييه الفرنسية، في ضاحية غرونوبل، وقطع رأس مديره في العمل، المحقّقين ووضعتهم أمام شخصية متناقضة تماماً، على الرغم من أنّه كان معروفاً لدى الاستخبارات كناشط سلفي، لكنها أخطأت في تقدير درجة خطورته وغابت عن مراقبته.

الصالحي يعمل سائق توصيل طلبيات (دليفري)، يبلغ من العمر 35 عاماً، متزوج منذ عشر سنوات وله ثلاثة أطفال، غير متوفر على "البروفايل" الكلاسيكي الذي يميّز عادة الجهاديين الفرنسيين، مثل منفذ هجمات تولوز في مارس/ آذار 2012، محمد مراح، أو كمنفّذي اعتداءات "شارلي إيبدو"، وهما الأخوان سعيد وشريف كواشي. نفى الصالحي مخالطته بعض العناصر السلفية، وعلاقته بأي تنظيم جهادي.

أصرّ الصالحي في أقواله أمام المحققين، بأنّه "فقد أعصابه"، بسبب خلاف مع زوجته التي هدّدته بالطلاق عشية تنفيذه الهجوم على المعمل. وبحسب قوله، فإنّ حالته النفسية المتوترة ازدادت، بسبب خلاف آخر اندلع مع صاحب العمل، هيرفي كورنارا، ما أكّده بعض زملائه في الشركة، الذين كانوا شهوداً على شجار عنيف بين الصالحي وكورنارا، الذي اتهمه بالتقصير وبإتلاف طلبية من الأجهزة المعلوماتية كان مكلفاً بنقلها.

غير أن معطيات أخرى حسمت أن العملية خلفيتها إرهابية "داعشية" خصوصاً بعد أن اكتشف المحققون أن الصالحي، بعد قطعه رأس كورنارا، أخذ صورة "سيلفي" مع الرأس المقطوع، وأرسلها عبر "واتساب" إلى سورية، تحديداً إلى شخص من معارفه، وهو جهادي فرنسي معروف لدى الاستخبارات، يقيم حالياً في مدينة الرقة. ويحاول المحققون التأكد إن كان الصالحي أرسل الصورة تنفيذاً لطلب من التنظيم، كي يتم نشرها لاحقاً، ويتبنى العملية. أما المعطى الثاني الذي رجّح الفرضية الإرهابية، فهو عملية قطع الرأس وتعليقه على سياج المعمل إلى جانب علم التنظيم، التي تشبه عمليات النحر الهمجية التي يبثها التنظيم في شرائط الفيديو عبر الإنترنت.

اقرأ أيضاً: المشتبه به في الاعتداء في فرنسا يقر بجريمة القتل

جريمة الصالحي وما قبلها من عمليات إرهابية، تسلّط الضوء على الأسباب التي حوّلت فرنسا في العقدين الأخيرين إلى هدف رئيسي للتنظيمات الجهادية العالمية. ويأتي على رأسها، النشاط العسكري الكثيف ضد هذه التنظيمات الإسلامية في منطقة الساحل الأفريقي؛ فقد أطلقت باريس منذ حوالي عامين عملية "بارخان"، وقوامها 3 آلاف عنصر من القوات الخاصة مدعومة بالطائرات الحربية وطائرات الاستطلاع والمراقبة، ويكمن هدفها الأساسي في ملاحقة الخلايا الجهادية وتصفية قياداتها، وهو ما نجحت فيه نسبياً في الأشهر الأخيرة.

وتشارك فرنسا بسلاحها الجوي عبر قواعد في الخليج والأردن في الغارات التي يشنّها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسورية. هذا الانخراط الفرنسي العالمي ضد الجهاد، جعل فرنسا تنافس الولايات المتحدة على موقع العدو الأكبر، خصوصاً وأنها لا تزال تُعتبر قوة استعمارية في أذهان الجهاديين.

كما أن فرنسا رسّخت صورتها في عقلية القيادات الجهادية في العالم أجمع، كبلد العلمانية الصارمة من قضية الرسوم الكاريكاتورية عن الإسلام والموقف من ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس والأماكن العامة. واتّبعت فرنسا السياسة الهجومية أمنياً وقضائياً ضد الجهاديين في فرنسا، فيما يخص عمليات المراقبة والملاحقة لآلاف الأشخاص من أصول إسلامية وعربية، المشتبه بعلاقتهم بالتنظيمات الجهادية، وإقرار قوانين صارمة تعاقب الإشادة بالإرهاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وعمدت إلى طرد العشرات من الأئمة السلفيين بسبب نشاطهم الدعوي في المساجد. كل هذه الأمور مجتمعة، جعلت من فرنسا هدفاً استراتيجياً للتنظيمات الجهادية في مختلف أنحاء العالم. وعادة ما تُذكر فرنسا في الدعوات التي تطلقها التنظيمات الجهادية ضد المصالح الغربية.

بدأت الهجمات الجهادية المباشرة ضد فرنسا مطلع التسعينيات، وارتبطت أساساً بالجماعات الإسلامية في الجزائر. في 25 ديسمبر/كاون الأول 1994، قام كوماندوس من تنظيم "الجماعة الإسلامية المسلحة" المعروفة بـ"جيا"، باختطاف طائرة إيرباص في مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية، وتم تحويلها إلى مطار مارسيليا، وأسفرت العملية عن مقتل الخاطفين وثلاثة رهائن من بين الركاب بعد تدخل القوات الفرنسية الخاصة.

في يوليو/تموز 1995، اهتزّت باريس على وقع ثلاثة تفجيرات استهدف أحدها محطة ميترو في حي السان ميشال، وأسفر عن سقوط 8 قتلى وأكثر من 100 جريح. وتمكّنت الأجهزة الفرنسية من اكتشاف العقل المدبّر لهذه العمليات، وهو شاب فرنسي من أصول جزائرية، يدعى خالد قلقال، بمساعدة رشيد رمضة وقتلتهما وحدة من الجيش الفرنسي بعد مطاردة طويلة.

اقرأ أيضاً: فرنسا مجدّداً... بالغاز... واستنفار يتمدّد أوروبيّاً

ومع تراجع التنظيمات الإسلامية المسلحة في الجزائر، تحوّلت بؤرة الخطر إلى أفغانستان، التي قصدها عشرات الجهاديين الفرنسيين للقتال إلى جانب تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن. ونشطت الأجهزة الفرنسية في اتخاذ تدابير استباقية لتجنّب عمليات إرهابية على أراضيها، وفكّكت عشرات الخلايا، كانت غالبية عناصرها تتدرب في أفغانستان وباكستان والشيشان، ما جعل فرنسا في منأى عن العمليات المسلحة داخل أراضيها لأكثر من عقد من الزمن.

إلا أنّ العملية النوعية التي هزّت فرنسا وجعلتها تجابه معطيات غير مسبوقة في الخطر الإرهابي، وقعت في مدينتي تولوز ومونتوبان في مارس/آذار 2012، حين قام شاب فرنسي من أصل جزائري اسمه محمد مراح بثلاث عمليات منفصلة ومتسلسلة بتصفية ثلاثة جنود فرنسيين، قبل أن يهاجم مدرسة يهودية في تولوز وقتل أربعة مدنيين. وتمكّنت الأجهزة الأمنية من تصفيته بعد أن حاصرت المنزل الذي كان يتحصّن فيه، خلال عملية عسكرية ضخمة أثارت جدلاً كبيراً.

وفي 7 يناير/كانون الثاني 2015، استيقظت باريس على كابوس فظيع، حين قام الأخوان سعيد وشريف كواشي، وهما شابان فرنسيان من أصول جزائرية، باقتحام مقر الصحيفة الأسبوعية الساخرة "شارلي إيبدو" التي نشرت العديد من الرسوم المسيئة للإسلام، وقتلا بدم بارد 12 شخصاً، وإصابة 11 آخرين. وبينما كانت الأجهزة الأمنية تلهث في مطاردة محمومة بحثاً عن الأخوين كواشي، قام شاب فرنسي من أصل مالي، يدعى أمادي كوبالي، بقتل شرطية في ضاحية مونروج المحاذية لباريس، ثم اقتحم متجراً يهودياً للأغذية وسط العاصمة، وقتل خمسة أشخاص قبل أن ترديه الشرطة قتيلاً، تزامناً مع اقتحام الشرطة مطبعة في ضاحية شمال شرق العاصمة، تحصّن داخلها الأخوان كواشي، حيث تمّ تصفيتهما. وكشفت التحقيقات أن كوبالي كان على علاقة وثيقة بالأخوان كواشي وأنه كان مقرباً من تنظيم "داعش"، في حين أقر الأخوان كواشي قبل مصرعهما بأنهما ينتميان إلى تنظيم القاعدة في اليمن.

طيلة ثلاثة أيام، تسمّر الفرنسيون بذهول أمام شاشات التلفزيون لمتابعة تطورات هذه العمليات التي عكست إخفاق الأجهزة الأمنية الفرنسية في تجنيب باريس عمليات ضخمة من هذا النوع، وبهذا الكم من الضحايا. واكتشف الفرنسيون أن 500 جهادي فرنسي يشاركون في القتال إلى جانب التنظيمات الجهادية في العراق وسورية. وقامت الحكومة باتخاذ تدابير عاجلة لرفع مستوى الأداء الاستخباراتي، فسنّت قانوناً جديداً يتيح لأجهزة الاستخبارات التنصت بحرية على الجميع. كما أطلقت الدرجة القصوى من عملية "فيجي بيرات" الخاصة في حماية التراب الفرنسي من خطر العمليات الإرهابية، وجنّدت حوالي 30 ألف شرطي وجندي لهذه المهمة.   

وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات، جاءت العملية التي نفّذها الصالحي، يوم الجمعة الماضي، لتكشف مجدداً الإخفاق الأمني الفرنسي، فاعترفت الأجهزة بأنّ معظم منفذي العمليات الإرهابية كانوا خاضعين للمراقبة، إلّا أنّ الإرهاب كان يسبقهم، ما يشير إلى أنّ فرنسا لن تنأى عن هذا النوع من الإرهاب مهما رفع الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، حالة التأهب الأمني، بحسب قوله أخيراً.

اقرأ أيضاً: حروب الذئاب المنفردة

المساهمون