واستخدم الاحتلال مع سامر العربيد التعذيب الجسدي خلال التحقيق معه، بعد استصدار قرار قضائي يسمح لمحققي الاحتلال بذلك، باعتباره "قنبلة موقوتة" يجب انتزاع اعترافات منه. فالاحتلال يتهم سامر بترؤس خلية عسكرية تتبع لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وبتنفيذ عملية تفجير عبوة ناسفة في أغسطس/ آب الماضي، قرب منطقة عين بوبين، القريبة من قرية دير ابزيع غرب رام الله، قتلت فيها مستوطنة إسرائيلية.
وتؤكد الباحثة في "نادي الأسير الفلسطيني"، أماني السراحنة، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الأسير سامر العربيد لم يكن الحالة الوحيدة التي تتعرض للتعذيب الجسدي، ولكن أعيد تسليط الضوء على هذا الأمر الآن لأنه وصل به إلى وضع صحي خطير.
"القنبلة الموقوتة"... مسلسل من العذاب
يعاني الأسير المحرر فراس طبيش من بلدة دورا جنوب الخليل جنوب الضفة الغربية لغاية الآن من آثار التعذيب الذي تعرّض له خلال التحقيق معه في سجون الاحتلال قبل سبع سنوات، وتلازمه مشاكل صحية من جراء ذلك. ويروي طبيش لـ"العربي الجديد"، ظروف تعذيبه وضربه الذي استمر أياماً أغمي عليه خلالها أكثر من مرة. ويقول إنه تعرّض في اليوم الأوّل لاعتقاله، لأساليب تعذيب عدة أهمها بطريقة "الموزة" (إحدى وضعيات التعذيب للأسرى)، فيما كان محقق يجلس فوق رجليه ويهزه بشكل قوي، ومحقق آخر يقترب من رأسه قائلاً: "تريد أن تموت؟ أم تتكلم؟". كما استخدم معه، بحسب ما يوضح، طريقة إبقائه جالساً على كرسي الشبح (من وسائل التعذيب) 23 ساعة متواصلة والتهديد بقتله، مضيفاً أنه كان يرتاح من أسلوب تعذيب بأسلوب آخر، ويقول: "لقد أحضروا لي صورة ابني، وقال لي المحقق: إن لم تعترف، فسيعش ابنك يتيماً".
في اليوم الثاني للتحقيق، لم يعد فراس قادراً على السير من دون عكازات. وفي اليوم الرابع عرض على محكمة لتمديد التحقيق معه، وحين سأله القاضي إن كان تعرّض للتعذيب كشف عن جسده، لكنّ مخابرات الاحتلال نفت في تلك اللحظة تعذيبه. وبعد خروجه من السجن، حاول مقاضاة الاحتلال، فصدر قرار من المحكمة الإسرائيلية العليا عام 2018، يقضي بأنّ ما حصل معه قانوني لوجود استثناء في قوانين الاحتلال، لما يسمى بـ"القنبلة الموقوتة".
وقبل أن تصدر سلطات الاحتلال الإسرائيلي قرارها عام 1999 بتبني عدم استخدام التعذيب الجسدي بحق الأسرى، كان مدير "مركز أحرار لدراسات الأسرى"، فؤاد الخفش، قد تعرّض، كما يروي لـ"العربي الجديد"، للتعذيب الجسدي كذلك، الذي اشتمل على الضرب، لكنه كان ضمن حدود قدرة الإنسان على الاحتمال. لكن في اعتقاله عام 2003، أي بعد قرار منع الضرب، كان الأمر مختلفاً، إذ تعرض لتحقيق عسكري وكان التعذيب شديداً وقاسياً.
ويقول الخفش: "أخذوني إلى منطقة خالية وجردوني من ملابسي، وخنقوني وضربوني على كامل جسدي، بما في ذلك أعضائي التناسلية، وتم وخز خصيتي بإبرة، ما أدى لانتفاخ كبير جداً فيهما، وتم الضغط على يدي بعد وضع قلم بين أصابعي، وكذلك تمّ وضع رأسي على الأرض، وتغطيته بالتراب لمدة معينة".
أمّا الأسير المحرر لؤي ساطي الأشقر من بلدة صيدا شمال طولكرم شمال الضفة الغربية، فعادت به ذاكرته إلى ما كان تعرض له من تعذيب، وهو ما يمرّ به حالياً الأسير سامر العربيد، إذ خاض الأشقر التجربة ذاتها. ويقول لـ"العربي الجديد": "ما زلت أتذكر وعيد المحققين لي بالموت إن لم أعترف، وفعلاً كان الموت أرحم مما تعرضت له، فالآن وبعد خروجي من السجن، لا أستطيع الوقوف أو المشي، فأنا مصاب بشلل نصفي"، لكنه استدرك سريعاً بالقول: "إعاقتي وسام شرف، ودليل على فشل الاحتلال بالنيل من عزيمتي".
وبدأت قصة الأشقر بعد اعتقاله عام 2005، حينما أنهال عليه خمسة محققين بالضرب العنيف وهو معصوب العينيين ومكبل اليدين والقدمين، بعدما رفض الاعتراف بعلمه بوجود شاب فلسطيني ينوي تنفيذ عملية استشهادية في الأراضي المحتلة عام 1948.
ويصف الأشقر تلك اللحظات الأليمة قائلاً: "أجلسوني على كرسي ذي أطراف حادة ومن دون خلفية، بعد تقييد يدي خلف ظهري، وربط قدمي بها، ثمّ قام المحققون بدفعي بعنف من صدري إلى الخلف لانقلب إلى الوراء، مع تكرار العملية لأكثر من مرة، وهذا الأسلوب يعرف بالموزة، لأسقط بعد دفعات عنيفة عدة على الأرض، حيث شعرت بدوار وارتفاع في درجة حرارة جسدي وبعدم القدرة على النهوض لدرجة أنني كنت أفقد الوعي وأتقيأ ما في معدتي". ويشير الأشقر إلى جزء من التعذيب الذي تعرّض له، كالجلوس على أصابع القدمين، أو الضغط بشدة على الخصيتين حتى يفقد الوعي، لكنه لا ينسى كذلك أنّ التعذيب الجسدي يرافقه تعذيب نفسي قائم على الإهانة.
وخلال تعذيبه والتحقيق معه، فقد الأشقر إحساسه بقدميه تدريجياً، وأبلغ المحققين بذلك لكنهم واصلوا ضربه والضغط على الشريان الرئيسي أعلى الفخذين لينقطع الدم عن رجليه لمدة أربعة أيام، حتى اعترف بما لا يعرفه كي يتوقّف هذا المسلسل المرعب. وحينها، جاء جندي لنقله إلى الزنزانة، وفكّ القيد بين قدميه والكرسي. ويقول الأشقر: "حاولت الوقوف فلم أستطع، فأمسكني من تحت إبطي ورفعني، لكنه ما إن أبعد يديه حتى سقطت أرضاً، حينها أيقنت أنني بت مشلولاً"، ليتبين أنه أصيب بكسور متعددة بفقرات العمود الفقري، تسببت له بالشلل التام لمدة ستة أشهر، وبعد علاج طبيعي استمر لسنوات، بات قادراً على السير المتقطع بمساعدة عكازات.
منظومة من التعذيب
ولا يعني إقرار محكمة العدل الإسرائيلية عام 1999 بممارسة أجهزة الأمن الإسرائيلية التعذيب فعلاً، ومنحها استثناءً حينها على شيء لا يجوز استثناؤه، بممارسة الضغط الجسدي المعتدل في حالة الضرورة على الأسير، أنّ التعذيب بحق الأسرى مقتصر على الشقّ الجسدي خلال التحقيق فقط، بل إنّ هناك منظومة حياتية من التعذيب يعيشها الأسرى طيلة اعتقالهم.
وتؤكد الباحثة في "نادي الأسير الفلسطيني"، أماني السراحنة، لـ"العربي الجديد"، أنّ التعذيب الممارس بحقّ الأسرى لم يتوقّف، وهناك شهادات على ذلك، لكنه مورس بدرجات وأنواع مختلفة، فإعطاء القضاء الإسرائيلي قراراً استثنائياً بالتعذيب، يثبت أنّ الاستثناء هو القاعدة باستمرار تعذيب الأسرى. وتؤكّد السراحنة أنّ القضاء الإسرائيلي يمارس تعذيباً بحق المعتقلين كذراع أساسي يدعم ممارسة أجهزة أمن الاحتلال بإصدار قرارات بقضايا المعتقلين كافة، ما يستدعي الدعوة إلى ضرورة مقاطعة هذا القضاء.
ووفق السراحنة، لا يتوقف تعذيب الأسرى فقط عند التحقيق، بل يبدأ منذ لحظة اعتقالهم، مروراً بقمعهم وضربهم خلال اقتحامات السجون، فضلاً عن ظروف الاعتقال السيئة، سواء لناحية الطعام المقدّم أو العزل أو الحرمان من الزيارة وغيرها. وتقول: "إنّ ما تقوم به إسرائيل من تعذيب للأسرى يستدعي إعادة تعريف وتوضيح التعذيب في الحالة الفلسطينية، بعيداً عن القوانين العالمية بهذا الشأن".
أمّا مدير مركز "أحرار" فؤاد الخفش، فيشير إلى أنّ التعذيب عن طريق الضرب توقف بشكل كبير، لكن الاحتلال يركز على التعذيب النفسي من خلال جولات تحقيق سريعة وبطيئة، وإرهاق المعتقل الذي يكون جالساً على كرسي مقيّد اليدين، واستخدام الأم أو الأب في إطار الضغط النفسي.
من جهته، يؤكّد الناطق باسم "هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية"، حسن عبد ربه، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الاحتلال الإسرائيلي على الرغم من انضمامه وتوقيعه على اتفاقية مناهضة التعذيب عام 1999، إلا أنّه ومن خلال جهاز المخابرات الإسرائيلي، يمارس التعذيب بشكل ممنهج بحق المعتقلين الفلسطينيين.
ويشدّد عبد ربه على أنّ "محامي الهيئة يوثقون حالات التعذيب بأخذ شهادات الأسرى، مؤكداً أنّ قضيتهم بتفاصيلها كافة، من المرضى والإداريين والأطفال والنساء وحالات التعذيب التي يتعرضون لها، هي جزء من الملف الموجود لدى محكمة الجنايات الدولية، على الرغم من أنّ المدعية العامة للمحكمة لم تفتح إلى الآن تحقيقاً رسمياً بكل الملفات، بما فيها الأسرى، بكل أسف".
التعذيب يطاول الأسيرات كذلك
ولا يقتصر التعذيب على الأسرى، بل يطاول كذلك الأسيرات، إذ تعرضت الأسيرة المحررة والكاتبة لمى خاطر من مدينة الخليل جنوب الضفة، العام الماضي، لتحقيق قاسٍ استمر 34 يوماً، وكانت تتمنى المرض ودخول المستشفى كي تخرج من أجواء التعذيب، بحسب ما تقول لـ"العربي الجديد". وتوضح أنه حينما كانت تتعب وتطلب الخروج إلى العيادة كانت تعطى المسكنات، وبدلاً من منحها الراحة كانت تعاد إلى كرسي التحقيق والشبح، واصفةً الزنزانة التي كانت توضع فيها بغير الصحية وأن المياه الموجودة فيها ملوثة.
وتعرّضت خاطر للتعذيب على كرسي الشبح لفترات طويلة، وهي مقيدة اليدين، وسط تهديدات وشتائم وحرمان من النوم قد يصل إلى نحو 20 ساعة متواصلة، فيما يسمح لها بالنوم فقط بين 3 و4 ساعات، تغفو فيها بشكل متقطع. وقد عانت خاطر في تلك الفترة من تسارع في دقات القلب، وكانت دائماً ما تفكر بما ستلاقيه في جولة التحقيق الجديدة من أنواع تعذيب، والتي لا تزال تعاني من آثارها بما أثر على صحتها. وتؤكد أنّ هذه الأساليب أخطر لانتزاع الاعترافات، من أساليب التعذيب الجسدي والضرب.
ولأنّ خاطر لم تعترف أمام المحققين الإسرائيليين، بعد اعتقالها في 24 يوليو/ تموز 2018 بتهمة القيام بأنشطة ضد الاحتلال، والذي استمر نحو عام، هدّدوها بدفع ثمن جراء ذلك، وقالوا لها: "يجب أن تشعري أنك خسرتِ بسبب موقفك هذا، كي لا يفكر أحد بعدم الاعتراف مستقبلاً"، بحسب ما تروي.
إلى ذلك، وقبل 32 عاماً، اعتقلت الأسيرة المحررة عطاف عليان (57 عاماً) من مدينة رام الله، للمرة الأولى بعد تخطيطها لتنفيذ عملية استشهادية، وقد استمر اعتقالها مدة 10 سنوات، قبل أن يعاد الأمر ثلاث مرات أخرى كان آخرها عام 2005، لتقضي في سجون الاحتلال نحو 14 عاماً. وتتذكّر عليان في حديث مع "العربي الجديد"، ما عانته خلال التحقيق معها في اعتقالها الأول، وتقول: "لقد بقيت في التحقيق مدة 40 يوماً، حينها ضربوني وكسروا أنفي وأصبع يدي اليمين، ونقلوني للمستشفى حيث أكدت للمحققين أنه يجب ألا أعود لمركز التحقيق، ونقلت إلى مركز توقيف، لكنهم أعادوني وحققوا معي مجدداً، وتعرّضت لضرب وشتائم ومزقوا مصحفاً كان معي، علاوة على التعذيب النفسي واعتقال أفراد أسرتي للضغط علي، وهددوني بالاغتصاب، لينتزعوا مني اعترافات".
وتشدّد عليان على أنّ تعذيب الأسير أو الأسيرة لا يقتصر على فترة التحقيق، بل إنّ أساليبه المختلفة تلاحق الأسرى مدة اعتقالهم. وتقول: "عزلت باعتقالي الأول نحو 4 سنوات ونصف السنة، ووضعوني بين المعتقلات الإسرائيليات الجنائيات اللواتي كن يردن قتلي بتحريض من السجانين. وفي اعتقالاتي اللاحقة عانيت من الاعتقال الإداري وحرمت من احتضان طفلتي وزيارة عائلتي لي، فخضت إضراباً عن الطعام لأجل ذلك".
الأسيرة شيرين العيساوي وأشقاؤها
كلما ذكر التعذيب في سجون الاحتلال، تذكرت الأسيرة المحررة المحامية شيرين العيساوي عذابات قاسية عانتها هي وأشقاؤها في سجون الاحتلال أيام الأسر، ولا تزال تلاحقها كوابيسها، في الوقت الذي يرقد فيه الأسير سامر العربيد في قسم العناية المكثفة في مشفى هداسا على جبل المشارف المطل على بلدتها العيسوية بالقدس المحتلة في وضع صحيّ حرج جراء ما تعرض له من تعذيب على أيدي سجاني الاحتلال ومحققيه.
المسافة بين غرفة العناية التي يرقد فيها العربيد، ومنزل شيرين العيساوي في بلدتها المتاخمة للمستشفى قصيرة جداً ولا تتعدى سوى بضع مئات من الأمتار، لكنّ المسافة بين ماضٍ قريب عانت فيه من التعذيب خلال اعتقالات عدة تعرّضت لها في السنوات الماضية، وبين ما تعرض له الأسير العربيد من التنكيل قد تكون الأقرب وجدانياً لها، وهي التي لا تزال تترقّب تحرر أشقاءها الأسرى وعلى رأسهم سامر العيساوي.
وتقول شيرين في حديث مع "العربي الجديد"، عن تجربتها: "التعذيب هو من أصعب مراحل الاعتقال، وأنا شخصياً تعرّضت له خلال اعتقالي، سواء كان تعذيباً جسدياً أو نفسياً، أيضاً أشقائي مدحت وسامر وفراس ورأفت وفادي وشادي، كلهم تعرضوا للتعذيب في فترات التحقيق الأولى من اعتقالهم".
وتتابع: "أتذكر جيداً ما أبلغنا المحامي به، وبعد مرور 90 يوماً من التعذيب، ومنع زيارة المحامي لشقيقي مدحت وفراس وكانا قد اعتقلا في الشتاء، كيف أن المحققين وضعوهما عراة في ساحة تحت مزراب مياه المطر الباردة والثلج ينزل فوق رأسيهما وعلى جسديهما، حتى أصيبا بالإغماء". وتوضح شيرين أنه خلال التحقيق تم كسر أنف شقيقها مدحت وأسنانه جميعها، مضيفةً "فضلاً عن طريقة الشبح للخلف أو التعليق من السقف، وعندما أخرجوا ملابسهما (مدحت وفراس) كانت ممزقة والدماء الجافة تغطيها، حيث تم ضرب رأس مدحت بالحائط مرات عدة، وفي إحداها تمّ نقله إلى المستشفى بعد أن فقد الوعي وتدهورت حالته الصحية، عدا عن حرمانهما من النوم ووضع كيس مليء بالغائط على رأسيهما وخنقهما به".
أساليب التعذيب عديدة ومتنوعة، كما تروي العيساوي، وتقول: "هناك الكثير من أساليب التعذيب التي مورست على أشقائي كما هو حال بقية الأسرى والأسيرات، وبالنسبة لي كان يتم ضرب رأسي بالحائط، وخنقي بالكيس وحرماني من النوم، وغيرها من الأساليب الوحشية".
وحول ما إذ كان التعذيب يسقط ضحيته ليستسلم لمحققيه، تجيب شيرين: "هذه الممارسات لم تضعفنا، بل على العكس نزداد معها قوة، على الرغم من شدة الألم والمعاناة. فصاحب الحق والمقاوم الذي يدافع عن حقه بتقرير المصير الذي كفله القانون الدولي لن ترهبه ممارسات الاحتلال، والتي من خلالها يسعى إلى إعدام المقاومين بطرق غير مباشرة، والنيل من معنوياتهم وعزيمتهم. العربيد حتماً سيجتاز محنته الحالية، وسينتصر على جلاديه، لتنتصر له الحياة".