بعد أكثر من 59 عاماً على اغتياله في مدينة دالاس في ولاية تكساس في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963، ظلّ طيف الرئيس الراحل جون كينيدي حاضراً في الأوساط الأميركية، الرسمية والشعبية، على وقع تنامي نظريات المؤامرة حول الاغتيال ومن يقف وراءه. وفي السياق، صدرت العديد من الكتب وأُنتجت الكثير من الأفلام حول هذه النظريات.
وشكل إخفاء سلطات الولايات المتحدة الوثائق الرسمية حول عملية الاغتيال طيلة العقود الستة الماضية، حافزاً لاستيلاد سيناريوهات عدة، وسبباً لاتهام المواطنين إداراتهم المتتالية برفض الكشف عن "حقائق الاغتيال".
كشف وثائق اغتيال كينيدي
غير أنه في السنوات الأخيرة، تحديداً منذ عام 2017، وفي عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كُشف عن بعض الوثائق وعددها 3 آلاف وثيقة، بموجب قانون أقره الكونغرس في عام 1992، ويفرض نشر الوثائق المتعلقة باغتيال كينيدي بمجملها من دون أي اقتطاعات في غضون 25 عاماً.
وواصل الرئيس الحالي جو بايدن عملية نشر وثائق إضافية، آخرها مساء أول من أمس الخميس، لكن مع التحفّظ على بعضها. فقد نشرت المحفوظات الوطنية الأميركية أكثر من 13173 وثيقة متعلقة باغتيال كينيدي تتضمن نحو 5 ملايين صفحة، بعد نشر نحو 1500 وثيقة في ديسمبر/كانون الأول 2021. إلا أن البيت الأبيض حال دون نشر آلاف الوثائق الأخرى، بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي.
بايدن: ستُنشر أي معلومات محجوبة قبل 30 يونيو المقبل
وجاء في المذكرة التي نشرها بايدن مساء الخميس، وفقاً لقناة "سي أن أن"، أن "الحاجة إلى حماية الوثائق المتعلقة بالاغتيال ضعُفت مع مرور الزمن". وعلى الرغم من اعتباره أنه "من المهم أن تبدي الولايات المتحدة أكبر قدر من الشفافية من خلال الكشف عن المعلومات الواردة في الوثائق"، إلا أن بايدن ترك باباً مفتوحاً لاستثناءات محددة، فسّرها بقوله: "إلا إذا كانت هناك أسباب قوية"، تمنع الكشف عن وثائق حساسة.
ووصف الأمر بأنه "إجراء ضروري للوقاية من أضرار قد تلحق بالدفاع العسكري، أو عمليات الاستخبارات، أو إنفاذ القانون، أو مسار العلاقات الخارجية".
وسبق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أن تقدما بطلبات للمحافظة على سرية بعض الوثائق. لكن بايدن شدّد في المذكرة على أن أمام المحفوظات الوطنية والوكالات الأخرى، مهلة حتى مايو/أيار المقبل، لمراجعة الوثائق المتبقية، وبعد ذلك "ستُنشر أي معلومات محجوبة قبل 30 يونيو/حزيران المقبل"، خصوصاً أن الوكالات المعنية لم تطلب استمرارية تأجيل الكشف عنها إلى ما بعد هذا التاريخ.
ويفيد مؤرخون مختصون بجون كينيدي بأنه من غير المرجح أن تكون الوثائق التي لم تُنشر، تحوي معلومات خطرة، أو قادرة على دحض نظريات المؤامرة حول عملية الاغتيال.
وقد غذت هذه التكهنات مئات الكتب والأفلام مثل فيلم "جاي أف كاي" للمخرج أوليفر ستون في عام 1991. وترفض نظريات المؤامرة المتعلقة باغتيال كينيدي نتائج لجنة التحقيق المعروفة باسم "لجنة وارن" التي خلصت في عام 1964، إلى أن لي هارفي أوزوالد، وهو عنصر سابق في المارينز (البحرية الأميركية) عاش فترة في الاتحاد السوفييتي، تحرك بمفرده لاغتيال الرئيس الأميركي.
وقد قتل أوزوالد بعد يومين من اغتيال كينيدي، على يد مالك مرقص ليلي يدعى جاك روبي، لدى نقله من السجن البلدي. ويعتبر البعض أن الاتحاد السوفييتي وكوبا استعانا بخدمات أوزوالد. ويرى آخرون أن الاغتيال خططت له المعارضة الكوبية المناهضة للرئيس الراحل فيدل كاسترو، بدعم من أجهزة الاستخبارات الأميركية و"أف بي آي" أو معارضين لجون كينيدي في الولايات المتحدة.
طلب "أف بي آي" و"سي آي إيه" المحافظة على سرية بعض الوثائق
وتتعلق الكثير من الوثائق الجديدة بأوزوالد، لا سيما تنقلاته إلى الخارج والأشخاص الذين التقاهم في الأسابيع والأشهر والسنوات التي سبقت عملية الاغتيال. وتكشف إحدى الوثائق استجواب عميل سابق في جهاز الاستخبارات السوفييتي (كاي جي بي) الذي يؤكد أن هذا الجهاز جنّد أوزوالد خلال إقامته في الاتحاد السوفييتي، إلا أنه كان "يعتبر مجنوناً بعض الشيء ولا يمكن توقع تصرفاته".
وأكد هذا العميل أن جهاز الاستخبارات السوفييتي لم يكن على اتصال بأوزوالد لدى عودة الأخير إلى الولايات المتحدة و"لم يكلفه الجهاز بقتل الرئيس كينيدي". وتذكر وثيقة أخرى تعود إلى عام 1991 مصدراً آخر في "كاي جي بي"، يؤكد أن أوزوالد "لم يكن يوماً عميلاً يتحكم به كاي جي بي"، مع أن الاستخبارات السوفييتية "راقبته عن كثب وباستمرار خلال إقامته في الاتحاد السوفييتي".
لا تغيير في الرواية الرسمية
وقال مؤلف كتاب "نصف قرن كينيدي: الرئاسة والاغتيال والإرث الدائم لجون أف كينيدي"، لاري ساباتو لـ"سي أن أن"، إن "ما نُشر لن يغير ما حدث في عام 1963". وأضاف أن "الوثائق المُفرج عنها لن تغيّر الرواية الرسمية لاغتيال كينيدي"، والمتمحورة حول تصرّف أوزوالد بمفرده.
واعتبر أنه "إذا كان الناس يبحثون عن دليل لدعم نظريات المؤامرة بأن أوزوالد لم يتصرف بمفرده في قتل كينيدي، أو أن وكالة المخابرات المركزية كانت متورطة بطريقة ما، فلن يجدوا ذلك هنا". ولفت الكاتب إلى أن إحدى الوثائق "كشفت عن وجود أوزوالد في العاصمة المكسيكية، مكسيكو سيتي، قبل الاغتيال، وذكرت أن الولايات المتحدة كانت تدير مركز تنصت هاتفي سري للغاية مع رئيس المكسيك (أدولفو لوبيز ماتيوس)، وهو أمر غير معروف حتى للاستخبارات المكسيكية".
وتطرق ساباتو إلى وثيقة أخرى جاء فيها أنه "اعتباراً من شهر ديسمبر الحالي، لا يزال 28 سجلاً في مجموعة جون كينيدي مجهولاً". واعتبر أن "مثل هذه الاعترافات هي التي تغذي نظريات المؤامرة". بدورها، تطرقت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى رحلة لأوزوالد إلى فنلندا في عام 1959، العام الذي انشق فيه عن بلاده منضماً إلى الاتحاد السوفييتي.
كما نشرت صوراً لطلب القاتل التأشيرة الكوبية. ولم تتأخر "سي آي إيه" في التأكيد، في سلسلة من البيانات صدرت مساء الخميس، أن "الوثائق المنشورة لا تغير السجل التاريخي وليس لها أي تأثير على الاغتيال أو التحقيق نفسه". ونقلت "سي أن أن" عن متحدث باسم الوكالة قوله: "لسنا على علم بأي وثائق معروفة بارتباطها مباشرة بأوزوالد، لم تكن قيد التحقيق".
(العربي الجديد، فرانس برس)