أتاح المغرب الوقت الكافي للأمم المتحدة ولأمينها العام أنطونيو غوتيريس، ليمارسا مهامها الموكلة إليهما للتدخل في مثل هذه الحالات، التي يتعرض فيها معبر طرقي دولي مهم في التجارة الدولية للعرقلة ومحاولة الإخلال بالأمن العام، ليس لدولة واحدة، بل لعدد متسلسل من الدول، التي يشكل لها معبر الكركرات شريان الحياة الاقتصادية وقناةً لتدفق السلع والمواد الأساسية.
وفي ظل عدم نجاعة موقف الأمين العام ولا فاعلية قوات "بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية" (مينورسو)، عبّر المغرب عن إرادته، وتدخّل تحت سمع ومرأى الأمم المتحدة وممثليها في المنطقة، لإعادة الأمور إلى نصابها. وهذا ما جرى سريعاً وفق خطة محكمة نفذها الجيش المغربي. وبينما أبدت دول عدة مواقف متفهمة أو مساندة للمغرب تصدرتها دول خليجية، عملت دول أخرى على اللعب على حبال الغموض، بنسج مواقف فضفاضة كما هو الحال بالنسبة للنظام المصري. أما في ما يتعلق بالجزائر فمواقفه باتت معروفة، وتحريكه لا يخفى، فزاعة البوليساريو، منذ استرجع المغرب أقاليمه الصحراوية من الاستعمار الإسباني، وقام بمسيرة الاسترجاع الشعبية في عام 1975.
ولا يسعى المغرب إلى انتزاع حق الصحراويين، كما يروّج له الخصوم، بل إن الرباط طرحت، خلال مسارات التفاوض الأممي، أكثر من حلّ، بداية بحلّ الاستفتاء عام 1981، في عهد الأمين العام السابق للأمم المتحدة بيريز دي كوييار، ومضى فيه المغرب بعيداً، وكان من المقرّر أن يجرى في سنة 1992، لكن هذا المسار توقف بسبب رفض البوليساريو الاستمرار فيه، بعد أن تبين لها أن نتائجه لن تكون في صالحها.
وعندما طرح الملك الراحل الحسن الثاني حلّ الاستفتاء، كانت الأحزاب السياسية المغربية الكبرى رافضة له، لأنها اعتبرت أنه لا تنازل عن مغربية الصحراء، الموثقة تاريخياً والمستمرة اجتماعياً وسياسياً، على الرغم من ممارسات الاستعمارين الفرنسي والإسباني باقتطاع الأراضي وتمزيق الوحدة الترابية. فجيش التحرير المغربي كانت انطلاقته من الجنوب، ومن هناك بنى استراتيجيته لتحرير البلاد، مع القوى المغربية الأخرى في الشمال والوسط.
تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى مواقف حزب الاتحاد الاشتراكي وقيادته السياسية بزعامة عبد الرحيم بوعبيد، والتي كلّفته ورفاقه عقاباً بالسجن في معتقل ميسور الصحراوي. كان وقتها الزعيم الاتحادي الكبير يجهر بأنه لا استفتاء حول مغربية الصحراء.
وسيطرح المغرب خطة سياسية أخرى أكثر جرأة، وهي التي تعرف بـ "المبادرة المغربية للحكم الذاتي"، وذلك عام 2006، في آخر ولاية الأمين العام السابق كوفي عنان، وقد اعتمدها الملك محمد السادس، كحلّ اعتُبر شجاعاً، حتى من قبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وطريقاً يرسم مسار التسوية الشاملة والنهائية لملف الصحراء، بموجبه يمنح للصحراويين حكماً ذاتياً في إدارة شؤون المنطقة تحت السيادة المغربية، ويمنح للمنطقة وضعاً استثنائياً وتفضيلياً، عبر مسارٍ يفضي في النهاية إلى تثبيت إرادة السكان في الصحراء.
وبنظرة على مسار الحكم الذاتي، يمكن استنتاج ثلاث ركائز يقوم عليها:
الركيزة الأولى أنه بحسب منطوق خطة الحكم الذاتي يجرى اختيار شكل نظام الحكم الذاتي، ويكون موضوع تفاوض، ويُطرح على السكان المعنيين بموجب استفتاء حرّ، ضمن استشارة ديمقراطية. ويُعدّ هذا الاستفتاء، طبقاً للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، بمثابة ممارسة حرة من لدن هؤلاء السكان، لحقهم في تقرير المصير.
الركيزة الثانية أن المغرب يتعهّد بمراجعة الدستور وإدراج نظام الحكم الذاتي وتفعيل مسلسل العودة إلى الوطن، وإصدار عفو شامل على الصحراويين يستبعد أي متابعة أو توقيف، أو اعتقال أو حبس، أو أي شكل من أشكال الترهيب، ينبني على وقائع مشمولة بهذا العفو.
أما الركيزة الثالثة والأهم فهي تشكيل مجلس انتقالي يقود المرحلة، وذلك بعد موافقة الأطراف على مشروع نظام الحكم الذاتي، ومن اختصاصات المجلس الانتقالي، المساهمة في تدبير عودة سكان المخيمات إلى الوطن، ونزع السلاح والتسريح، وإعادة إدماج العناصر المسلحة التي توجد خارج تراب الجهة، وكذلك في أي مسعى يهدف إلى إقرار هذا النظام وتطبيقه، بما في ذلك العمليات الانتخابية.
لكن ما يحدث اليوم في المنطقة، يسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فخارج مسارات التفاوض وبناء الثقة، تلجأ البوليساريو إلى توتير الأجواء، بمحاولة قطع الطريق في معبر الكركرات، والتلويح بالعودة إلى حمل السلاح، وخرق اتفاق وقف إطلاق النار الذي وُقّع في عام 1991.
وهي قفزة في الهواء، لن تجد حاضنة إقليمية أو دولية، مفوّتة بذلك على نفسها عرضاً مغربياً يعيد دمجها في النسيج العام المغربي، وفي تربتها الصحراوية، التي حوّلها المغرب عبر مسار تنموي طويل إلى صلة وصل اقتصادية كبرى بين الشمال الأوروبي والجنوب الأفريقي. فالتاريخ لا ينتظر المتخلّفين ولا الفاشلين ولا دعاة الحروب.