هجوم أوكرانيا على كورسك: محاولة فرض معادلات مغايرة

26 اغسطس 2024
من عمليات إجلاء الروس في كورسك، 17 أغسطس 2024 (فلاديمير ألكساندروف/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الهجوم الأوكراني في كورسك**: منذ أغسطس، احتفظ الجيش الأوكراني بقرابة ألف كيلومتر مربع من الأراضي الروسية، وزادت الهجمات على المطارات والبنى الحيوية، مما يعكس رغبة كييف في فرض معادلات جديدة في الحرب.

- **الرد الروسي والتحديات**: السلطات الروسية تحاول إقناع الشعب بواقع جديد، مع التركيز على معالجة قضايا النازحين. القوات الروسية تواصل عملياتها في دونيتسك، بينما أعلن بوتين "عملية مكافحة إرهاب" في كورسك.

- **تقديرات وتحليلات**: الهجوم الأوكراني مستمر رغم وصول قوات الاحتياط الروسية، مع استخدام قنابل انزلاقية عالية الدقة. القوات الروسية تواجه تحديات في تأمين إمداداتها، رغم تحقيق اختراقات في دونيتسك.

تواصلت المعارك في مقاطعة كورسك الروسية المندلعة منذ السادس من أغسطس/آب الحالي، ورغم فقدان الهجوم البري الأوكراني زخم الأيام الأولى، استطاع الجيش الأوكراني الاحتفاظ بقرابة ألف كيلومتر مربع من الأراضي الروسية. وكشفت زيادة وتيرة الهجمات الأوكرانية على المطارات الحربية والبنى الحيوية في الداخل الروسي والهجمات على مقاطعة بريانسك الروسية قبل أيام، عن رغبة كييف في فرض معادلات جديدة في الحرب المستمرة منذ 24 فبراير/شباط 2022، وذلك عبر احتلال أراضٍ روسية للضغط أو المقايضة في أي مفاوضات مستقبلية مع موسكو، وإضعاف الجبهة الداخلية الروسية وزعزعة الثقة بالكرملين والجيش والأجهزة الأمنية التي بدت عاجزة عن منع نقل المعركة إلى الداخل الروسي، وغير قادرة على طرد الجنود الأوكرانيين من مقاطعة كورسك.

في المقابل، بدأت السلطات الروسية في عملية ممنهجة لإقناع الروس بتقبّل واقع جديد ناتج من احتلال جيش أجنبي أراضيَ روسية للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) مع التركيز على معالجة القضايا المعيشية لعشرات الآلاف من الروس، ممن اضطروا إلى النزوح عن مناطقهم الحدودية في كورسك. وواصلت القوات الروسية عمليتها العسكرية في دونيتسك، شرقي أوكرانيا، في مسعى لتحقيق اختراق يمكّنها من السيطرة على مزيد من أراضي "نوفوروسيا" (مصطلح أُطلق على مناطق دونباس، التي تضم لوغانسك ودونيتسك، وجنوب شرق أوكرانيا بعد سيطرة الإمبراطورية الروسية عليها في حروبها مع العثمانيين والقوزاق)، ولو على حساب بقاء جزء من روسيا مؤقتاً تحت سيطرة أوكرانيا. ووجّهت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان قبل أيام، وجولته في ثلاث مناطق في القوقاز الروسي رسائل عدة، مفادها أن قضية كورسك ليست أولوية للكرملين في الوقت الراهن.


بدأت موسكو مهمة إقناع الروس بتقبّل واقع جديد ناتج من احتلال جيش أجنبي أراضيَ روسية 

وكما كان متوقعاً وعلى الرغم من الكشف عن ثغرات كبيرة في الدفاعات الروسية أدت إلى الاختراق الأوكراني واحتلال أجزاء في مقاطعة كورسك، لم يعمد بوتين إلى إعلان حالة الحرب أو تعبئة عامة جديدة أو إطاحة أي من الجنرالات المسؤولين عن الخلل في ضمان أمن الحدود سواء ممن قصّروا في الحصول على المعلومات الاستخباراتية أو تجاهلوا معلومات عن تجهيز أوكرانيا لهجوم، أو تركوا الحدود من دون حماية كافية. واكتفى بوتين بإعلان "عملية مكافحة إرهاب" في كورسك وتعيين مساعده وحارسه الشخصي السابق أليكسي ديومين (المولود في كورسك بالذات في عام 1972) مسؤولاً عن هذه العملية، في مؤشر ربما إلى عدم ثقته بالقيادات العسكرية وتفضيله إشراف المقربين منه على الأوضاع.

تقديرات متضاربة للهجوم على كورسك

وعلى الرغم من وصول قوات الاحتياط الروسية إلى منطقة القتال، فإن الهجوم الأوكراني في منطقة كورسك ما زال متواصلاً، مع محاولة الجيش الأوكراني توسيع انتشاره على طول الحدود وفي الوقت ذاته التوغل في عمق الأراضي الروسية. وحسب المراسلين العسكريين الروس والأوكرانيين، فإن القتال الأكثر ضراوة في منطقة كورسك هو على طول طريق سودجا ـ كورسك السريع (بالقرب من قرية مارتينوفكا)، وسودجا ـ لغوف، وبالقرب من بلدة كورينيفو، مع محاولة القوات الأوكرانية تجاوز كورينيفو من الجنوب والشمال. ورأى مركز دراسات الحرب الأميركي في تقديراته، الجمعة الماضي، أن تطور الأحداث متعلق بقدرة القوات المسلحة الأوكرانية على الاستيلاء على كورينيفو، لإغلاق الطرق أمام الروس لشن هجوم في اتجاه طريق لغوف ـ ريلسك. بالتالي، فمن دون الاستيلاء على كورينيفو، فإن رأس الجسر الأوكراني في منطقة كورسك آيل للتعرض لهجوم روسي مضاد في المستقبل، خصوصاً مع تركيز روسيا على زيادة قواتها في شرق سودجا.

وتجنّبت البيانات العسكرية الروسية الكشف عن حجم الأراضي الواقعة تحت سيطرة أوكرانيا في مقاطعة كورسك. وتغنّت البيانات بنجاحات في تدمير الأسلحة الغربية والمتطورة. وفي بيانات الجمعة الماضي، ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن خسائر القوات الأوكرانية في كورسك ارتفعت إلى 5137 قتيلاً بعد مقتل 400 جندي وتدمير 17 مدرعة في معارك ذلك اليوم. وذكرت بيانات الوزارة أن الجنود الروس قضوا على وحدة تخريب واستطلاع تابعة للقوات المسلحة الأوكرانية بالقرب من كاميشيفكا (الواقعة على بعد 20 كيلومتراً شمالي سودجا) في منطقة كورسك. كما أعلنت الوزارة عن صدّ وحدات من قوات الشمال، مدعومة بطيران الجيش ونيران المدفعية، هجمات مجموعات هجومية أوكرانية في اتجاه بلدتي بوركي ومالايا لوكنيا، كما أحبطت هجمات في اتجاه كوماروفكا وكورينيفو ومارتينوفكا وروسكايا كونوبيلكا. وقالت الوزارة إن القوات الروسية قصفت تجمعات القوات الأوكرانية ومعداتها بالقرب من أباناسوفكا، وألكسندرويه، وفيشنيفكا، وميخائيلوفكا، وليوبيموفكا، ومالايا لوكنيا، وبليخوفو، وسناغوست، ويوجني في منطقة كورسك. وأضافت أن الطيران الروسي استهدف تجمعات وحشوداً للجيش الأوكراني في منطقة سومي كانت في طريقها إلى عبور الحدود نحو كورسك. وذكر بيان الجمعة أن أوكرانيا خسرت في معارك كورسك 69 دبابة، و27 مركبة مشاة قتالية، و55 ناقلة جنود مدرعة، و350 مركبة قتالية مدرعة، و158 مركبة، و34 قطعة مدفعية، وخمس منظومات صواريخ مضادة للطائرات، و11 قاذفة صواريخ متعددة، بما في ذلك ثلاث قاذفات صواريخ من طراز هيمارس وقاذفة صواريخ متعددة المهام، وست محطات للحرب الإلكترونية، وأربع قطع من المعدات الهندسية.


استخدم الجيش الأوكراني قنابل انزلاقية عالية الدقة زودته بها الولايات المتحدة في كورسك

في المقابل، قال الجيش الأوكراني يوم الجمعة إنه استخدم قنابل انزلاقية عالية الدقة زودته بها الولايات المتحدة لتنفيذ ضربات في منطقة كورسك الروسية. وأكد أنه استعاد بعض الأراضي في منطقة خاركيف، شرقي أوكرانيا. ونشر قائد القوات الجوية الأوكرانية الجنرال ميكولا أوليشوك مقطع فيديو مساء الخميس الماضي، قال إنه لقصف أوكراني مجموعة من الجيش الروسي في كورسك. وذكر أن الهجوم تم بقنابل GBU-39، التي زودتها بها الولايات المتحدة، أسفر عن سقوط ضحايا روس وتدمير معدات. وفي الأسبوع الماضي دمرت أوكرانيا ثلاثة جسور على نهر سيم في مقاطعة خاركيف في محاولة لاستخدام التضاريس والعوائق المائية في الحفاظ على مكاسبها، وزيادة أعداد الأسرى الروس.

واستمرت أوكرانيا في استخدام التضاريس بنجاح للتقدم في كورسك، بعد مرور ثلاثة أسابيع على بدء العملية، مع قطع الطريق على عدد من القوات الروسية بسبب الهجمات الأوكرانية المستهدفة للجسور الرئيسية في كورسك. ومثل فقدان المعابر عبر نهر سيم تحدياً خطيراً للقوات الروسية المتمركزة في منطقة غلوشكوفسكي، الواقعة بين النهر شمالاً ومنطقة سومي الأوكرانية غرباً وجنوباً والأراضي الخاضعة للسيطرة الأوكرانية في منطقة كورسك شرقاً. وأخفقت روسيا حتى الآن في تأمين إمدادات إضافية لقواتها المحاصرة تقريباً جنوبي النهر. وبدأت القوات الروسية في إنشاء معابر عائمة عبر النهر في أعقاب الهجمات الأوكرانية ضد الجسور الثابتة، لكن القوات الخاصة في الجيش الأوكراني ذكرت في 21 أغسطس الحالي، أنها ضربت بنجاح "المعدات الهندسية... والجسور والمعابر العائمة" الروسية في المنطقة.

وحسب تحليل صور الأقمار الاصطناعية في 19 أغسطس الحالي، اختفى معبر عائم واحد من اثنين على الأقل من المعابر العائمة عبر نهر سيم. وأعرب المدونون العسكريون الروس المؤيدون للحرب عن قلقهم بشأن إعاقة خطوط الإمداد للقوات الروسية الموجودة في منطقة غلوشكوفسكي. وحذر بعضهم من صعوبة إجلاء القوات الروسية من تلك المنطقة إذا تمكنت القوات الأوكرانية من تطويقها بالكامل. ولا يوجد تقدير دقيق لعدد القوات الروسية الموجودة في المنطقة لكنها تتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف جندي.

اختراقات روسية في دونيتسك

فشلت رهانات كييف في إجبار هجوم كورسك موسكو على تحويل جزء من قواتها في دونيتسك للدفاع عن مناطقها الحدودية. ولم يتوقف الهجوم الروسي على عدة محاور في دونباس بعد الهجوم في كورسك. وعلى العكس، كثف الجيش الروسي عملياته في منطقة دونيتسك لتعزيز التقدم البطيء منذ أشهر. وفي الأيام الأخيرة حققت القوات الروسية اختراقات في الدفاع الأوكراني في منطقة دونيتسك - جنوبي بوكروفسك وفي تجمع توريتسك. وفي الشمال الشرقي من بوكروفسك، حول بلدتي توريتسك ونيويورك، تكتسب القوات الروسية الأرض ببطء ولكن بثبات. وأقرت أوكرانيا الجمعة الماضي، عملياً بسقوط بلدة نيويورك، وكانت صور نشرها معهد دراسات الحرب الأميركي الخميس الماضي كشفت أن القوات الروسية تقف على أعتاب توريتسك وتسيطر على معظم بلدة نيويورك. وأمّنت القوات الأوكرانية سابقاً في نيويورك وتوريتسك مدينة أخرى في القوس الدفاعي المنيع الذي بنته أوكرانيا منذ 2015 وهي مدينة كوستيانتينيفكا، على بعد حوالي قرابة 15 كيلومتراً إلى الشمال الغربي. والخميس الماضي، سيطرت القوات الروسية بالكامل على قرى دروجبا وبيفدينوي وبيفنيشنوي وزاليزنوي، جنوبي توريتسك، ووصلت القوات الروسية من دروجبا وبيفنيشني إلى توريتسك نفسها وبدأت الهجوم على ضواحيها الجنوبية الشرقية.


موازين القوى لا تسمح لأوكرانيا بشن هجوم جديد على بريانسك أو نوفغورود الروسيتين

ومنذ منتصف يوليو/ تموز الماضي غيرت القوات الروسية التي عبرت خط سكة الحديد أفديفكا ـ بوكروفسك، اتجاه الهجوم الرئيسي بشكل غير متوقع من بوكروفسك، وهي المركز اللوجستي الرئيسي للقوات المسلحة الأوكرانية في الجزء الأوسط من دونباس إلى الجنوب نحو مدينتي سيليدوفو وكوراخوفو، اللتين يتم من خلالهما نقل الإمدادات الأوكرانية في القطاع الجنوبي من دونباس لمناطق أوغليدار وكراسنوغوروفكا ومارينكا. والخميس الماضي، بدأت القوات الروسية هجوماً على مدينة نوفوغرودوفكا بغرض الوصول إلى سيليدوفو. وسيطرت القوات الروسية بالفعل على مارينكا وكراسنوغوروفكا واقتربت من أوغليدار من الجنوب والشرق. ويمكن أن تتسبب مواصلة الجيش الروسي تقدمه، وسيطرته على كوراخوفو في انهيار كامل الدفاع عن القوات المسلحة الأوكرانية في الجزء الجنوبي من دونباس. وعلى عكس الجبهات الأخرى في دونباس لم تحقق القوات الروسية أي تقدم كبير في منطقة تشاسيف يار، وحسب تقديرات المحللين العسكريين الروس والغربيين، فإن هذه الجبهة لا تحظى باهتمام كبير. وذكرت بعض التقارير أن روسيا سحبت قسماً من القوات الموجودة في هذه الجبهة في مايو/ أيار الماضي للمشاركة في الهجوم على خاركيف، كما ذكرت وسائل إعلام أوكرانية أن روسيا أرسلت قسماً آخر من هذه القوات للدفاع عن سودجا في كورسك، مستشهدة بوجود أسرى من الألوية الروسية المنتشرة هناك.

احتمالات توسع الحرب

شهد الأسبوع الماضي هجوماً أوكرانياً على مقاطعة بريانسك الروسية. وذهب بعض المحللين إلى إمكانية توسع الحرب في منطقة حدودية أخرى، لكن عدد المشاركين في الهجوم كشف أن الهدف تكتيكي ولم يأتِ في إطار نهج لتوسيع الحرب عبر الحدود. وبتحليل دقيق، فإن موازين القوى لا تسمح لأوكرانيا بشن هجوم جديد على مقاطعتي بريانسك أو نوفغورود الروسيتين، وتعاني القوات الأوكرانية من نقص في الأفراد، والأفضل لها تمكين أوضاعها في كورسك لفتح باب التفاوض بشروط أفضل، إضافة إلى زيادة الدفاعات عن مناطق دونباس. كما أن الهجوم على مقاطعة بريانسك التي تملك حدوداً مع بيلاروسيا يثير حفيظة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذي أعلن قبل أيام أن بلاده نقلت ما يقرب من ثلث جيشها إلى الحدود مع أوكرانيا، وشدد على أنه "كان لا بد من اتخاذ مثل هذه الخطوة نظراً لحقيقة أن أوكرانيا لا تحتفظ بأكثر من 120 ألف عسكري بالقرب من الحدود مع بيلاروسيا فحسب، بل بدأت أيضاً في نقل وحدات إضافية".

وبعيداً عن إمكانية توسع الحرب في المناطق الحدودية، يبدو أن سخونة الأوضاع ستتواصل في أشهر الخريف المقبل، بعد صيف اكتوى الروس والأوكرانيون بناره. ومن المؤكد أن هجوم كورسك وجّه ضربة قوية لهيبة بوتين والكرملين، وربما لن تعيد السيطرة على مناطق في دونباس هذه الهيبة ما قد يضطره لتوسيع رده. في المقابل، مكّن الدعم الغربي المتواصل القوات الأوكرانية من الصمود أكثر ويمنحها القدرة على توجيه ضربات عابرة للحدود الروسية، كما أن زيادة الضربات الأوكرانية على البنى التحتية للطاقة في روسيا والمطارات تزامناً مع هجوم كورسك، كشف أن أوكرانيا ستواصل حربها بطرق أخرى حتى لو سيطرت روسيا على كامل مناطق دونباس.

المساهمون