نقابات سورية: فصول من قتل المجتمع يرويها غسان النجار 1/2

أنس أزرق

50FDB18D-D036-40E9-966A-28896A712969
أنس أزرق
02 مارس 2024
نقابات سورية: صوت الحرية المقموع 1/2
+ الخط -

لا يمكن فهم ما حدث في سورية المعاصرة من دون العودة إلى فترة حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد (1970-2000) والتي تشكل أحداث الثمانينيات في حلب وإدلب، ولاحقاً في حماة وعموم المناطق السورية، حدثاً أساسياً ومفتاحاً مهماً لرصد الخراب والدمار اللذين لحقا بسورية ومجتمعها لاحقاً. كما أنه لا يمكن النظر إلى فترة حكم الأسد الأب بوصفها مرحلة واحدة متجانسة. يمكن التمييز بين ثلاث مراحل: الأولى تمتد من استلامه الحكم، في ما عرف بالحركة التصحيحية، في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، إلى تدخل الجيش السوري في لبنان في شهر يونيو/ حزيران 1976. تتميّز هذه المرحلة بقبول شعبي معقول لنظام الحكم وشرعية سياسية مكتسبة من التخلّص من اليسارية البعثية وحرب تشرين وأيضاً ازدهار اقتصادي سببه تدفق الأموال العربية إلى دمشق بعد حرب أكتوبر 1973.

حافظ الاسد وزير الدفاع مع رئيس الجمهورية نور الدين الاتاسي قبل انقلاب الاسد  (Getty)
حافظ الاسد وزير الدفاع مع رئيس الجمهورية نور الدين الاتاسي قبل انقلاب الاسد (Getty)

أما المرحلة الثانية فهي تمتد من التدخل السوري في لبنان إلى مشاركة القوات السورية مع التحالف الدولي لإخراج القوات العراقية من الكويت 1991، وتميّزت هذه المرحلة داخلياً بقمع غير مسبوق وموت السياسة في سورية وأزمة اقتصادية معيشية خانقة وفساد أفقي وعمودي ممنهج، فضلاً عن تأليه الحاكم حافظ الأسد وتشكّل أحداث حلب، ولاحقاً حماة، عمودها الأساسي.

أما المرحلة الثالثة لحكم حافظ الأسد الممتدة خلال العشر سنوات الأخيرة فكانت سماتها انفتاحاً نسبياً والبحث عن حلول اجتماعية وسياسية مع مقاومة من المستفيدين وأساسها تهيئة المجال وترتيب البيت الداخلي لتوريث الابن البكر باسل ومن ثم بشار. 

بالعودة إلى ما حدث لسورية بعد ثورة 2011 وطريقة استجابة النظام الإجرامية للبركان الاجتماعي الذي تفجر والمصير الدامي لسورية أرضاً وشعباً، فإن أساس هذه الاستجابة والتعاطي مع الثورة والمجتمع كله، بما فيه الموالون، يكمن في استراتيجية القمع والمواجهة التي اعتمدها نظام حافظ الأسد في مواجهة أحداث الثمانينيات في حلب وحماة واستنسخها مع تطويرها نظام بشار الأسد لمواجهة ثورة 2011 وتمثلت بشعار "الأسد أو نحرق البلد".

لم يُبحث بشكل كافٍ عما حصل في مدينة حلب منذ بداية التفجيرات والاغتيالات التي قامت بها الطليعة المقاتلة لـ"الإخوان" منذ عام 1976 وانتهاء بدخول قوات الفرقة الثالثة والوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وتفتيشها المدينة مرات عدة والقضاء على التمرد، واعتبار كل صوت معارض "إخونجياً عميلاً" وتبني شعار "قائدنا للأبد الأمين حافظ الأسد".

تمجيد شخص حافظ الاسد من خلال المسيرات والتربية منذ الصغر
تمجيد شخص حافظ الاسد من خلال المسيرات والتربية منذ الصغر

استغل الأسد الأب انتصاره على الإخوان وطليعتهم بتثبيت حكمه المطلق، على أسس أنه القائد الاستثنائي الحكيم، واختُصر المجتمع بمن هم إلى جانب "الخونة الإخوان" وهؤلاء لهم المشانق أو السجون أو المنافي، ومن هم مع الأول والأبدي والمقدس حافظ الأسد. 

ضاعت في هذا الصراع حركات حزبية واتجاهات اجتماعية ودينية وكذلك بعض تقاليد الديمقراطية والأصول المهنية في النقابات، ولا سيما النقابات العلمية، كنقابات الأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين، والتي تأخر البعث في الاستيلاء عليها، خلافاً لما فعله مع نقابات العمال والمعلمين واتحادات العمال والفلاحين وغيرها. في أحداث الثمانينيات يكاد يُنسى النضال الذي قام به أعضاء هذه النقابات منعاً لانزلاق سورية إلى ديكتاتورية قاسية وقعت فيها للأسف.

سنتعرف، خلال حلقتين، على تجربة هذه النقابات وتحديها لحكم حافظ الأسد من خلال نبش ذاكرة غسان النجار أمين سر نقابة المهندسين في حلب والذي اعتقله النظام على خلفية نضاله النقابي وبقي من دون محاكمة لمدة اثني عشر عاماً في سجون الأسد الأب.

قابلت الأستاذ غسان النجار بعد عودته من رحلة الحج العام الفائت، وأخبرني بأنه صعد إلى غار حراء في مكة المكرمة وهو في هذه السن المتقدمة (86 عاماً)، وكان هذا الحوار عن دوره في حركة النقابات المهنية العلمية في أحداث حلب الثمانينيات وظروف اعتقاله وزملاءه النقابيين، ولاحقاً عن مساهمته في انطلاقة الثورة السورية والتي كان له سبق الدعوة إليها، بإعلانه الشهير في 30/1/2011 واعتقاله ثم إضرابه عن الطعام في 5 فبراير/ شباط 2011 لمدة خمسة عشر يوماً وقد أفرج عنه بعد تدهور صحته.

* لماذا سجنت؟
كنت أمين سر نقابة المهندسين في حلب عندما اندلعت في المدينة انتفاضة 1980. كان النظام البعثي يحاول السيطرة على النقابات، ولا سيما العلمية. شكّلنا قائمة ضد لائحة "الجبهة التقدمية" واكتسحنا الانتخابات عام 1979 رغم تدخل الأجهزة في حلب، ومنها حسين بطاح محافظ حلب وقتها الذي استدعانا وقال لنا إنهم كانوا يستطيعون تغيير نتائج الانتخابات، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً، لأنّ حتى مهندسي القطاع الحكومي خذلوا قائمة البعث وصوّتوا للقائمة المضادة والتي كان فيها كل من يقف ضد قائمة الجبهة وليس الإسلاميين فقط.

 حسين بطاح محافظ حلب 1980
حسين بطاح محافظ حلب 1980

تشكل مجلس نقابي في حلب مكوّن من قائمتنا وانتُخبت أمين سر لنقابة المهندسين وانتُخب الدكتور خير الدين حقي نقيباً للمهندسين، وهو ليس من التيار الإسلامي وكان عميداً لكلية الهندسة في جامعة حلب.
لم يكن النجاح على صعيد نقابة المهندسين في حلب فحسب، بل في نقابة المهندسين في سورية كلها حيث كان نجاح القائمة المضادة لقائمة الجبهة بنسبة 90%، وكذلك شمل ذلك النقابات العلمية المهنية.

* لماذا النقابات العلمية؟
لأنّ فيها الكثير من المستقلّين ومن خارج حزب البعث وأحزاب ما عُرف بالجبهة الوطنية التقدمية، وهي نقابات الأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والمهندسين الزراعيين وأطباء الأسنان، في حين كان أغلب أعضاء النقابات الأخرى من الموظفين واستطاع البعث عن طريق ذلك السيطرة عليها.

* أنت كنت من منتسبي حركة الاخوان المسلمين؟
كنت من التيار الإسلامي، وكان لديّ معارف وأصدقاء من الإخوان.

* كنتم مدعومين من جماعة الإخوان المسلمين؟
كنا مستقلين ونتعاون مع أي معارض للبعث وللجبهة، ولكن النظام كان حريصاً على إلصاق تهمة الإخوان بمن يعارضه.
كان حزب البعث حزباً استبدادياً يسيطر على الدولة والمجتمع بحجة أنه قائد الدولة والمجتمع، حسب المادة الثامنة من الدستور الذي فرضه، وكنا نريد تغيير ذلك.

* لكن تغيير الدستور مسألة سياسية وليست نقابية؟
 نحن جزء من الشعب ومطالبنا بالحريات والديمقراطية جزء من مطالب الناس، فضلاً عن مطالبتنا بالإفراج عن المهندسين المعتقلين، وقد كان بعضهم من الإخوان وآخرون ممن هم من غير الإخوان. 

* شكلتم أيضا اتحاد النقابات العلمية.
انطلقت التظاهرات الشعبية في حلب، فعقدنا اجتماعاً في مبنى نقابة المهندسين الواقع في منطقة المحافظة والقريب من مبنى أمن الدولة سيئ السمعة، بحضور ممثلي النقابات العلمية، وأصدرنا بياناً كتبته بخط يدي يؤيّد مطالب الناس بالحرية والديمقراطية وإلغاء حالة الطوارئ والقضاء العسكري وسحب كافة المظاهر المسلّحة من المدن وإنهاء حصار حلب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. أردنا طباعة كمية كبيرة من نسخ البيان، وذهبنا إلى المطابع في حلب وكان يُعتذر عن طباعته، لأنّ فيه عبارات معارضة للنظام، وأحدهم بعد أن طبع كمية من البيان انتبه وقال لي بلهجة حلبية "ابوس ايديك، خذهم وما بدي منك ولا فرنك". وأكملت الطباعة في نقابة الأطباء. كان المحافظ حسين بطاح يلتقي بنا كل أسبوعين، وكان غاضباً جداً من هذا البيان الذي وُزِّع في كل مناطق حلب ويصرخ: "أنا بدي أحرق حلب إذا بقيت على ذلك". قلت له يعني أنت تريد تخريب المدينة؟ فأشار إلى عضوه التناسلي وقال "لكذا" بالتعبير الدارج.

* هل حاول النظام الحوار معكم؟
عُقدت أكثر من جلسة حوار في حلب ولاحقاً في دمشق، في حلب تم اجتماع بيننا نحن في النقابات العلمية، باستثناء نقابة المحامين، إذ عقدوا اجتماعاً خاصاً معهم، في مقر فرع حزب البعث، وكان رشيد اختريني أمين الفرع وحضر اللقاء عبد القادر قدورة وناجي جميل وعبد الله الأحمر وزهير مشارقة وحصلت مشادة بيني وبين عبد القادر قدورة حين قلت إنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً وإن الأمر لحافظ الأسد والضباط المعروفين بـ"العليات"، فرد قدورة بأنني طالب وزارة، وانتهى الاجتماع بتهديدنا باستخدام القوة العسكرية.

الكسم يعد والأسد يبطش

انعقد مؤتمر نقابة المهندسين العام في 28 شباط/ فبراير عام 1980 في دمشق، وكانت تسود المؤتمر أجواء المطالبة بالحريات العامة وضرورة زوال القمع والاعتقالات. ألقى غسان النجار كلمة في المؤتمر طالب فيها بإطلاق سراح المهندسين المعتقلين، وكرر هو وزملاؤه المطالب التي تبنتها النقابات العلمية، وفي المقدمة منها إنهاء حالة الطورائ في البلاد وإطلاق الحريات، وهنا تدخل رئيس الوزراء في حينها عبد الرؤوف الكسم، وهو كان من أعضاء المؤتمر بصفته مهندساً معمارياً، وطلب مهلة شهرين، وإذا لم يستطع الإيفاء بوعده سيستقيل وينزل للتظاهر مع النقابيين. وعلى أساس هذا الوعد تم تأجيل الدعوة للإضراب العام حتى يوم 31 مارس/ آذار فتكون مدة الشهرين قد انتهت.

حكومة عبد الرؤوف الكسم الثالثة 1985
حكومة عبد الرؤوف الكسم الثالثة 1985

في الأيام التالية، خرج حافظ الأسد في خطاب شهير اتهم فيه النقابات المهنية بالهرطقة والخيانة الوطنية وأنها مخترقة بالرجعية وتشكل خطراً على المجتمع الاشتراكي المنشود. أصدر حافظ الأسد في 7 إبريل/ نيسان 1980 مرسوماً تشريعياً قضى بتخويل مجلس الوزراء حل النقابات المهنية، وفي 10 إبريل 1980 أصدرت الحكومة قراراً بحل النقابات المهنية وتعيين شخصيات محسوبة على البعث والأمن في قيادتها.

ذات صلة

الصورة
آثار قصف روسي على إدلب، 23 أغسطس 2023 (Getty)

سياسة

شنت الطائرات الحربية الروسية، بعد عصر اليوم الأربعاء، غارات جديدة على مناطق متفرقة من محافظة إدلب شمال غربيّ سورية، ما أوقع قتلى وجرحى بين المدنيين.
الصورة
غارات روسية على ريف إدلب شمال غرب سورية (منصة إكس)

سياسة

 قُتل مدني وأصيب 8 آخرون مساء اليوم الثلاثاء جراء قصف مدفعي من مناطق سيطرة قوات النظام السوري استهدف مدينة الأتارب الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة
الصورة
قوات روسية في درعا البلد، 2021 (سام حريري/فرانس برس)

سياسة

لا حلّ للأزمة السورية بعد تسع سنوات من عمر التدخل الروسي في سورية الذي بدأ في 2015، وقد تكون نقطة الضعف الأكبر لموسكو في هذا البلد.
الصورة
غارات جوية إسرائيلية على دمشق 21 يناير 2019 (Getty)

سياسة

قتل 16 شخصاً وجُرح 43 آخرون، في عدوان إسرائيلي واسع النطاق، ليل الأحد- الاثنين، على محيط مصياف بريف حماة وسط سورية.