نتنياهو في قفص الاتهام

24 مايو 2020
نتنياهو أول رئيس حكومة إسرائيلي يحاكم وهو في الحكم(Getty)
+ الخط -
ثلاث سنوات متتالية، وثلاث معارك انتخابية في أقل من عامين، خاضها رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، محاولاً إنقاذ نفسه من القضاء، وتجنيب نفسه صورة مثوله متهماً أمام المحكمة الإسرائيلية، بتهم الفساد وخيانة الأمانة العامة والاحتيال. ثلاث سنوات لم يترك فيها نتنياهو أي وسيلة أو أداة أو خطاب تحريضي، ضد اليسار والإعلام، وضد الشرطة ومفتشها العام السابق روني الشيخ، الذي عيّنه نتنياهو نفسه، وأخيراً ضد المستشار القضائي للحكومة، أفيحاي مندلبليت الذي رقّاه نتنياهو نفسه أيضاً، من سكرتير الحكومة، إلى المستشار القضائي للحكومة. تحريض كانت تزداد حدته كلما اقترب إعلان لائحة الاتهام، وبدأ بالتحريض على اليسار والإعلام بأنهم يريدون كسر روحه المعنوية فقط، لأنه يمثّل اليمين، ولأن اليسار والإعلام لم يُسلم بعد بحكم اليمين. وانتقل إلى التحريض على الشرطة، مستهزئاً بداية بالتوصيات بفتح تحقيق جنائي ضده، ليصل إلى تبنّي نظرية المؤامرة عليه، حتى من قِبل مفتش الشرطة الذي عيّنه نتنياهو بعد أن كان رئيساً لـ"الشاباك"، وجاء به من قلب المجتمع الاستيطاني الديني في الضفة الغربية المحتلة.

لكن الذروة في مساعي نتنياهو، كانت عشية الانتخابات الأخيرة بعد تقديم لائحة الاتهام الرسمية وتحديد موعد للحكمة، عندها شنّ نتنياهو هجوماً اتهم فيه القضاء في إسرائيل بأنه يقوم بانقلاب على الحكم، تنفيذاً لأجندات اليسار، ويقدّمه للمحاكم لأنه يفشل في إزاحته من منصبه عبر صناديق الاقتراع، ومدعياً أن ما يتعرض له هو بسبب مناهضة الدولة العميقة له.
وشملت لائحة الاتهام الرسمية ضد نتنياهو ثلاثة بنود أساسية: الفساد وخيانة الأمانة العامة والاحتيال. وتمحورت شبهات الفساد حول نتنياهو في ثلاثة ملفات مختلفة، عُرفت باسم ملف 1000 والملف 2000 والملف 3000.

ويتعلق الملف 1000 بتلقي نتنياهو هدايا بطرق غير قانونية من رجلي الأعمال جيمس باركو (أسترالي الجنسية) وأرنون ميلتشين، صاحب موقع "والاه"، بقيمة مالية تصل إلى نحو مليون شيقل إسرائيلي (نحو 283 ألف دولار)، تلقاها نتنياهو وزوجته سارة على شكل سيغار فاخر وشمبانيا ورحلات سياحية. وأقرّ فتح التحقيق في هذه الشبهات أول مرة في ديسمبر/ كانون الأول 2016. أما الملف 2000، فيتعلق بمحادثات سرية أجراها نتنياهو مع ناشر صحيفة "يديعوت أحرونوت"، نوني موزيس، وتمحورت حول تعهد نتنياهو بإقناع ناشر صحيفة "يسرائيل هيوم" اليهودي الأميركي شيلدون إيدلسون بعدم إصدار ملحق أسبوعي، في مقابل تعهد موزيس بتعديل خط تحرير الصحيفة لمصلحة نتنياهو. بينما الملف الثالث، الذي يُعرف بالملف 3000، فيتعلق بسعي نتنياهو للتأثير في الإعلام والسيطرة على الرأي العام من خلال مفاوضات مع أرنون ميلتشين، صاحب موقع "والاه"، حيث كان نتنياهو يتدخل في مضامين الأنباء والأخبار المنشورة، لا لمصلحته فقط، بل لتلك الموجهة ضد خصومه السياسيين أيضاً.

وسعى نتنياهو على مدار العامين الأخيرين للذهاب إلى الانتخابات منذ قرار استقالة حكومته في ديسمبر/ كانون الأول 2018، لتحقيق أحد أمرين: الأول استباق قرار الشرطة والنيابة العامة بتقديم لوائح اتهام ضده، وأيضاً من خلال المماطلة في الاستجابة لحضور جلسات التحقيق، متذرعاً بمشاغله حيناً وبعدم توفير المعلومات اللازمة لفريق الدفاع عنه حيناً آخر، وحتى إقالة فريق الدفاع لعدم تسديد رواتبهم، ثم السعي إلى الحصول على دعم مالي لتكلفة المحاكمة. أما الأمر الثاني، فهو تحقيق أغلبية برلمانية تمكّنه، مع ائتلاف مناصر له، من سنّ ما يعرف في إسرائيل بالقانون الفرنسي، الذي يستلهم أسساً من القانون الفرنسي، ولا يجيز محاكمة رئيس حكومة ما دام في منصبه.


نجح نتنياهو على مدار السنوات الثلاث في تحقيق هدف وحيد، هو المماطلة وإرجاء بدء محاكمته، حتى من خلال توظيف جائحة كورونا لتأجيل الجلسة الأولى من إبريل/ نيسان الماضي إلى اليوم الأحد، لكنه فشل على الرغم من ثلاث معارك انتخابية من الوصول إلى أغلبية نيابية تمكّنه من تمرير القانون الفرنسي.

وفي موازاة إدارة حرب الدعاية ضد محاكمته، من خلال الاستهانة حيناً بتلقيه الهدايا والادعاء بأنه يحق للإنسان أن يأخذ هدايا من أصدقائه، أو الاستهتار بتهم التبذير على حساب الدولة والادعاء أن زوجته لم تطلب الطعام من مطاعم غالية وراقية، بل كانت تُعدّ وجبات ساخنة عادية، ظل نتنياهو يوظف أيضاً "إنجازاته" السياسية، وخصوصاً التي منحه إياها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ عام 2016: الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وأخيراً "صفقة القرن"، ليعزز صورة الضحية المطارد من اليسار والإعلام، وحتى "نخب القضاء"، وأخيراً الدولة العميقة، ليس لشخصه بقدر كونه يمثّل اليمين الإسرائيلي، وأن السعي لإطاحته يهدف أصلاً إلى إقصاء اليمين عن الحكم عبر قرار قضائي بدلاً من صناديق الاقتراع.

كل هذا، وإن كان قد كرس في الوعي الإسرائيلي صورة رئيس الحكومة الفاسد لدى معارضي نتنياهو، مقابل الشخص الزعيم الذي يسعى إلى تحقيق أهداف إسرائيل ومنع استسلامها لليسار، الذي بات ينظر إليه كموالٍ وحليف للعدو العربي، إلا أنه لا يقارن بالمشهد الذي ستعرضه محطات التلفزة. فلأول مرة في تاريخ دولة الاحتلال يُحاكَم رئيس حكومة وهو لا يزال في منصبه، علماً أن رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، استقال من منصبه بعد تقديم لائحة اتهام وحوكم كمواطن عادي.

صورة نتنياهو في قاعة المحكمة، آخر ما كان يتمناه كصورة تعلق في ذهن الإسرائيليين وتمحو من ذاكرتهم بقية الصور التي كان يريد أن تكون راسخة في الوعي الإسرائيلي وفي "كتب التاريخ"، صوره وهو في مراسم حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس المحتلة، صوره وهو يبسط السيادة الإسرائيلية على الجولان، وأخيراً صوره وهو يضع اللمسات الأخيرة على خطة ضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، ويزيل أي أمل لقيام دولة فلسطينية بين النهر والبحر.

اليوم سيمثل نتنياهو، على الرغم من محاولاته لتفادي حضوره خلال قراءة التهم الموجّهة إليه بذرائع اعتبرتها المحكمة واهية، مثل محاولات التذرع بأن الجلسة الأولى تقنية، أو أن حضوره سيلزم مصروفات باهظة لتأمين الحراسة له، ولا سيما أن المحكمة التي يمثل أمامها هي في قلب الشطر الشرقي المحتل من القدس عام 1967، في شارع صلاح الدين.
صورة نتنياهو في المحكمة هي أبرز معاركه لكيّ الوعي الإسرائيلي، لكنها لن تكون الأخيرة، إذ سيحاول إطالة أمد المحاكمة ما استطاع من خلال اللجوء إلى المماطلة، وسط إعداد خطاب شعبوي تحريضي ضد سلطة القضاء والقانون، وقد يُحضّر مفاجآت للقضاة والإعلام، سواء عبر عدم الاكتفاء بنفي التهم، بل بتوجيه التهم إلى القضاء والمستشار القضائي نفسه، بعد أن بدأ وزراء موالون لنتنياهو منذ الخميس الماضي بالتشكيك في نزاهة المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبليت والقول أن لا أحد يعترض على حقيقة الشبهات التي تحوم حول مندلبليت وعدم نزاهته.

السؤال الوحيد الذي يطرحه مراقبون، هو: هل سيمضي نتنياهو في المحاكمة حتى النهاية، أم سيبحث عن فرصة مناسبة لإبرام صفقة مع النيابة العامة، وكيف سيؤثر ذلك إذا كان مقروناً بتقديمه استقالته من الحكومة على المشهد الإسرائيلي الداخلي، وفرص تسلّم الجنرال بني غانتس رئاسة الحكومة، ومن ثم على المشهد الإقليمي ككل؟

المساهمون