ناجي دربالة لـ"العربي الجديد": تيار استقلال القضاء لا يزال موجوداً

29 مارس 2023
دربالة: القضاء تعرّض لظروف إكراه هائلة (العربي الجديد)
+ الخط -

يتحدث نائب رئيس محكمة النقض السابق، وأحد رموز تيار استقلال القضاء في مصر، المستشار ناجي دربالة، في حوار مع "العربي الجديد"، عن وضع تيار الاستقلال اليوم في القضاء المصري، وأسباب كمونه راهناً، وهو الأمر الذي قام بالتأصيل له في موسوعة قضائية صدر أول أجزائها حديثاً بعنوان "قضاة فوق الخوف".

دربالة، الذي أحيل للمعاش بعد اتهامه بالاشتغال بالسياسة، في أعقاب إصداره وعدد من نخبة تيار استقلال القضاء بياناً عام 2013 دعوا خلاله إلى إعلاء المصلحة العامة واحترام إرادة الناخبين، يتحدث لـ"العربي الجديد" عن رؤيته لإصلاح القضاء المصري وإعادة الهيبة له دولياً وإقليمياً، بالإضافة إلى الانتخابات الرئاسية التي يجري الحديث عنها، وتقييمه لدعوة الحوار الوطني.

في الجزء الأول من موسوعتك القضائية تناولت فيه باستفاضة تيار استقلال القضاء وجذوره، هل ترى أن هذا التيار لا يزال موجوداً في القضاء المصري، أو تم استئصاله بشكل كامل خلال الفترة الأخيرة؟

في كتابي بالفعل أشرح مدرسة تيار استقلال القضاء وسماتها، فهو تيار يتسع ليشمل كل القضاة في وقت من الأوقات حول قضايا معينة، ويضيق فيقتصر على نخبته في وقت آخر، ولكنه دائماً موجود ولا يختفي أبداً، ولا ينعدم من القضاء المصري، فهو موجود حتى الآن في هذا الظرف الصعب جداً الذي حدث فيه تجريف للتيار ونخبته التي تقود هذا التيار، لأسباب كثيرة، منها الطبيعة البشرية التي تميل للعدل والإنصاف، فمن هو القاضي الذي يحب أن يكون مأموراً، أو يتم تخويفه أو يُصدر أحكامه تحت الإغراءات؟ أحياناً تحتاج إلى أن ترفع راية فيلتف حولها الناس فيظهر هذا التيار بشكل قوي، وأحياناً يظل كامناً ينتظر الظهور مرة أخرى.

تقصد أن كمون هذا التيار في الوقت الراهن لغياب الراية التي يتجمّع حولها، وليس لكونه تم القضاء عليه؟

 

لغياب الراية طبعاً التي كان يحملها نادي القضاة، أو لغياب بعض الأفراد الذين يمثلون النخبة، مثلما كان المستشار يحيي الرفاعي، ووجدي عبد الصمد، وممتاز نصار، وأحمد مكي، وحسام الغرياني. هؤلاء كل منهم كان مؤسسة مستقلة بذاتها، لكن الراية ترتفع من المؤسسة الوحيدة القائمة على الانتخاب، في داخل القضاء، ممثلة في نادي القضاة.

طوال الوقت هناك جدل بشأن ضرورة عدم اشتغال القضاة بالسياسة، في تقديرك ما هو الحد الفاصل بين اشتغال القاضي بالسياسة وانشغاله وتفاعله مع هموم وطنه ومجتمعه؟

 

الاتهام بالسياسة سيظل اتهاماً أبدياً، فدائماً ينطلق هذا الاتهام من الذين لا يريدون للقضاء أن يقوم بدوره كما يجب في الدفاع عن استقلاله، وحماية هذا الاستقلال، وأن يدرك أن الحصانات والضمانات التي أخذها القضاة لا يأخذها لحساب نفسه، ولكن لحماية حقوق الآخرين، وحرياتهم. وبالتالي كلما باشر القضاة هذا الدور وتكلموا في قضايا القضاء، مثل قضية الانتخابات والإشراف القضائي على سبيل المثال، فالقضاة هنا يتكلمون في قضية من صلب اختصاصهم بعد ما أوكل لهم الإشراف على الانتخابات.

وكلما طالبتَ بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات وحرية القضاة في الإشراف وأن يكون مرجعهم الأساسي مجلس قضائهم الأعلى ومؤسساتهم القضائية فقط، وليست مؤسسات أخرى، تجد الذي يضار من هذا ويريد أن يُجري انتخابات معيبة أو يفعل أي شيء مخالف لحقوق المواطنين في إبداء رأيهم، يتهمكَ بالاشتغال في السياسة، مع أنها قضية من صلب العمل القضائي. وأحياناً تطالب بأشياء كقاضٍ، ولكنها بالضرورة قد تتقاطع مع مطالب معارضين للنظام والسلطة، مثل الإشراف القضائي، فهذا يسعد المعارضين، وهنا يتم استخدام هذا التقاطع في اتهام القضاة بالاشتغال بالسياسة.

حتى في مسألة التشريع، عندما نتحدث عن تشريع ما يفتئت على حقوق المواطنين وحرياتهم، فنحن نتكلم عن تشريع نقوم بتطبيقه كقضاة، فلا بد أن تراعي الإنصاف، وأن يحكمك قانون عادل، وعندما تنتقده فهو شأن قضائي في المقام الأول.

الاتهام بالسياسة سيظل يلاحق القضاة المدافعين عن استقلال القضاء

وهنا نقطة مهمة في هذا الإطار فتاريخ القضاء المصري في العصر الحديث شهد وقائع محددة، حتّمت على القضاة الخروج والإعلان عن رأيهم حتى لو كان شأناً سياسياً خالصاً، وهي اللحظات الفارقة في تاريخ الوطن، مثل ثورة 1919، حيث خرج القضاة وشاركوا في الإضراب وتعليق الجلسات للمطالبة بجلاء الاحتلال، أيضاً في عام 1952، خرج القضاة في تظاهرة شعبية من أمام دار القضاء العالي وتصدرها رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس الدولة والعشرة المستشارين في محكمة النقض، إلى قصر عابدين للمطالبة بالجلاء.

وفي نكسة 1967، أصدر القضاة بياناً في مارس/ آذار 1969 الذي أصدره المستشار ممتاز نصار الذي خرج ليؤكد أن سبب النكسة لم يكن الضعف العسكري فقط، ولكن التضييق على حريات الناس.

وأيضاً في 2013، خرجت مجموعة من القضاة أصدروا بياناً يحذرون فيه مما سيحدث، فالنوايا والانحياز كان للوطن، ولم يكن لشخص، فوقتها رأت تلك المجموعة من القضاة أنه إذا لم يتم احتواء هذه الأزمة، والانصياع لأحكام القانون والدستور، سيقودنا ذلك، حسب تعبير البيان وقتها، إما إلى عزف منفرد واستبداد أو لفوضى عارمة. هذه اللحظات الفارقة القضاة مكلفون بالوقوف فيها.

على ذكر الإشراف القضائي، دستور 2014 وتعديلاته في 2019 أنهى الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات بمنحه مهلة 10 سنوات تنتهي في يناير/ كانون الثاني المقبل، ونص على تشكيل الهيئة الوطنية للانتخابات التي تتولى تنظيم الانتخابات، ألا ترى في ذلك انتقاصاً من نزاهة أي عملية انتخابية مقبلة؟

 

قولاً واحداً، لن يثق الشعب في أي عملية انتخابية ليس بها إشراف قضائي كامل على كل صندوق، وهذا عن تجربتي الشخصية، إذ عاصرت انتخابات أجريت بإشراف قضائي جزئي، وأخرى بإشراف قضائي كامل. وأؤكد أنه لن تحظى أي انتخابات بأي نوع من أنواع الثقة سواء بين المواطنين أو بين المتخصصين، في ظل الشكل الذي حدده دستور 2014.

الشعب المصري لن يثق في أي انتخابات لا تتضمن إشرافاً قضائياً كاملاً

أولاً لا بد أن تكون عملية الإشراف القضائي من القضاة مباشرة بقاضٍ على كل صندوق، ولجنة قضائية تشرف على الانتخابات مختارة وفقاً للأقدميات أو وفقاً لآلية واضحة، ويحكمها أيضاً مجلس قضاء مستقل لا يُختار رئيسه بمعرفة رئيس الجمهورية مثل هذه اللجنة الوطنية للانتخابات، فمن يعيّن أعضاءها ويختارهم رئيس الجمهورية. فكيف يختار منافس في الانتخابات أعضاء اللجنة التي ستشرف عليها؟ لا بد من أن يكون هناك إشراف قضائي كامل، في ظل مجلس قضاء أعلى قادر على حماية نفسه.

هذا معناه أن الآلية الجديدة الخاصة باختيار رؤساء الهيئات القضائية من جانب رئيس الجمهورية أضرت بالقضاء المصري؟

 

بلا شك، فهي لم تضر به فقط، بل إنها هدمت كفاح أكثر من 70 عاماً، فكفاح القضاة من أجل الاستقلال كان عنوانه مجلس قضائهم الأعلى، الذي إن عيّنه رأس السلطة التنفيذية فَقَد استقلاله، مهما بلغت عدالة السلطة التنفيذية، وهي لن تكون عادلة أبداً في أمر يخص استقلال القضاء، لأنه في الغالب السياسة لها أغراض في القضاء. وطالما لصاحب السلطة التنفيذية يد على القضاء، فهنا يسقط الفاصل بين السلطات ويسقط استقلال القضاء.

آلية تعيين رؤساء الهيئات القضائية هدمت 70 عاماً من الكفاح لأجل استقلال القضاء

الفترة الأخيرة تشهد حراكاً في النقابات المهنية، ونرى عودة رموز وممثلين لتيارات الاستقلال في تلك النقابات مثل المهندسين وأخيراً الصحافيين، هل من الوارد أن يظهر تيار الاستقلال في نادي القضاة خلال الفترة المقبلة أم أن ذلك مستبعد؟

 

القضاء تعرّض لظروف إكراه هائلة في الفترة الماضية، من بين ظروف الإكراه تلك ما حدث مع نخبة تيار الاستقلال، واستئصالهم من القضاء، وهذا الاستئصال أخاف الجميع، لأنه ربط كل شيء بأشياء حياتية، فمن عُزلوا من القضاء وأنا أحدهم، لم يتعرّضوا للعزل فقط، بل أيضاً تم العصف بحقوقهم المالية، وأبنائهم، وطوردوا أحياناً ومُنعوا من السفر، كما مُنعوا من القيد في نقابة المحامين، فكانوا بمثابة رأس الذئب الطائر، فالخوف سلاح مستخدم بشكل واسع جداً داخل القضاء. أيضاً صعود شخصيات قضائية يعرفها القضاء إلى مناصب ذات شأن وتصدّر الصورة، يوصل رسائل لمن له طموح، فهي سياسة العصا والجزرة.

وهنا ألفت نظر القائمين على نادي القضاة أنه ليس منوطاً بهم فقط توفير الخدمات والرحلات للأعضاء، مع الاعتراف بأهمية ذلك، ولكن رسالتهم الأساسية هي استقلال القضاء، وضمان أن يكون هناك قضاء قادر على حماية الحقوق والحريات. ولذلك مؤسف جداً أن نرى لجنة العفو الرئاسية، هي التي تعلن عن إخلاء سبيل سجناء ما زالوا تحت التحقيق، فأين هيبة النائب العام هنا؟ على الدولة أن تتنبه أن للنائب العام هيبة ولا تصح مثل هذه الأشياء، فإعلان لجنة العفو الرئاسية إطلاق سراح أشخاص ما زالوا تحت التحقيق أمر خاطئ مائة بالمائة، وتجاوز لاختصاصات النائب العام.

إعلان لجنة العفو الرئاسي إطلاق سراح أشخاص ما زالوا تحت التحقيق خاطئ وتجاوز لاختصاصات النائب العام

بمرور عام على دعوة الحوار الوطني التي أطلقها الرئيس، كيف تقيّم تلك الدعوة الآن؟

 

حتى الآن لا توجد أي نتيجة تحققت، وما يصدر حتى الآن هو أنهم بصدد الترتيبات والإجراءات واللقاءات والاستماع، حتى هذا الاستماع ليس المعني به من يُجري الحوار، ولكن الشعب والقوى السياسية وغيرهم من المهتمين، وللأسف سمعة دعوة الحوار الوطني بين الناس أنها غير جادة. وأريد هنا أن أشير إلى أن أشهر مؤتمر في تاريخ القضاء، هو مؤتمر عام 1986، بكل ما فيه من لجان واستماع وانتقالات وبحوث وبتوصياته، كله لم يتجاوز 24 يوماً، وخرج بنصوص تعيش حتى الآن، فعندما تكون هناك جدية الأمور لا تأخذ كل هذا الوقت الطويل الذي تجاوز العام.

حتى الآن لا توجد أي نتيجة تحققت من دعوة الحوار الوطني

كنخبة تيار الاستقلال الذي أطيح به من القضاء، كنتم قد تقدّمتم برؤية للقائمين على الحوار الوطني، فإلى أين وصلت تلك الخطوة وهل تلقيتم أي رد عليها؟

 

لم نتلقَ أي ردود، وما تلقيناه لا يزيد عن انطباعات من عدد من الذين تفضّلوا وحملوا تلك الرؤية إلى عدد من الجهات القائمة على الحوار. ومجمل فكرتنا هي أن إصلاح القضاء يتمثّل في تضميد جراحه، وأنا رجل على أعتاب السبعين، ولست طامعاً في شيء، ولولا أن أخرجني قضاة هذا الزمان من القضاء ما خرجت، وكنت أتمنى الاستمرار فيه. وما أقوله ليس فيه أي مصلحة شخصية، فأنا وفقاً للمجرى الطبيعي للأمور إذا كنت في القضاء أن أصبح رئيس المجلس الأعلى للقضاء العام المقبل، فلا أريد هذا، حتى لو عدت للقضاء ليوم واحد.

القضاء مثخن بالجراح، واستبعاد نخبة تيار الاستقلال أساء للقضاء، محلياً ودولياً وإقليمياً، فهذا الاستبعاد يُنظر إليه على أنه تخليص للقضاء من قضاة عدول لا يمكن السيطرة عليهم ولا إغواؤهم، وبالتالي لا بد من عودة هؤلاء القضاة الذين تم عزلهم، وكل من عُزل على خلفية سياسية، ويدل على ذلك أن من تكلموا في السياسة تأييداً لفريق آخر ما زالوا في القضاء وفي أعلى المواقع.

والدعوة لعودة هؤلاء القضاة ليست بغريبة، ونتذكر التجربة التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات، بعد مذبحة القضاة في 1969، إذ وجد أن السلطات التي لديه تكاد لا تحظى بتقدير المجتمع الدولي أو المحلي، ومنهم القضاء، الذي هزت المذبحة وقتها صورته في نظر الناس. ففكر السادات في تصرف يعيد لمؤسسات الدولة هيبتها، فكان أول شيء قام به فتح ملف "مذبحة القضاة"، لأنه أدرك أن ذلك ضرورة محلية ودولية. كما أن غالبية وزراء العدل في عهده بعد ذلك كانوا من قضاة "المذبحة"، وكذلك النواب العموم جميعهم أيضاً، إذ أدرك أن القضاء لن يستعيد هيبته إلا بإعادة هؤلاء القضاة.

إعادة نخبة تيار الاستقلال مرة أخرى لوظائفهم بلا شك في مصلحة الوطن والمواطنين ثم بعد ذلك مصلحة النظام بلا شك، فما أقوله نصائح لرشادة النظام. ومن بين تلك النصائح أيضاً إعادة النظر في ترسانة القوانين التي صدرت، والتي من بينها الحبس الاحتياطي، فنظام الحبس الاحتياطي بشكله الحالي، أقرب إلى الاعتقال.

مع بداية عام الانتخابات الرئاسية المقبلة، هل ترى أن هناك فرصاً لتنظيم عملية انتخابية جادة؟

العملية الانتخابية الجادة لها شروط، هذه الشروط إذا تحققت يمكن أن نقول إن هناك فرصة، ومن بينها الإشراف الدولي، وكذلك الإشراف القضائي المستقل والكامل، وحرية التنافس، والاجتماع للمرشحين، وإلغاء النصوص القانونية التي تحول دون ترشح البعض.

هل تعتقد أن التحدي الأكبر خلال الانتخابات المقبلة هو شرعية القيادة؟

 

أؤيد هذا الرأي تماماً، فالنظام الذي يحكم مصر الآن استهلك كل الشرعيات، بدءاً من شرعية يوليو/ تموز، مروراً بشرعية انتصار أكتوبر/ تشرين الأول، وشرعية الانتشال من الإرهاب، وانتهاء بشرعية الانتشال من الأزمات الاقتصادية. والآن السؤال الأساسي، ما هي الشرعية التي تقنع أولاً المجتمع الدولي، وثانياً المجتمع الإقليمي، ثم المجتمع المحلي؟ وفي تقديري فالانتخابات المقبلة لن تكون مثل الانتخابات السابقة التي ترشح فيها المرشح الصوري موسى مصطفى موسى، فأي مرشح لن يكون مثله. فالنظام الحالي استهلك كل الشرعيات ويبحث حالياً عن شرعية جديدة خلال الانتخابات المقبلة.

النظام الحالي يبحث عن شرعية جديدة خلال الرئاسيات المقبلة

سيرة

نائب رئيس محكمة النقد السابق، وأحد رموز تيار الاستقلال. اختير عضواً في اللجنة التأسيسية لوضع دستور 2012.

خاض الكثير من المعارك للحفاظ على استقلال القضاء، وكان عضواً في "القائمة الحديدية" التي اكتسحت انتخابات نادي القضاة عام 2005، والتي أطاحت بالقائمة الحكومية، فشغل موقع وكيل النادي الذي ترأسه المستشار زكريا عبد العزيز.

أحيل للمعاش بقرار من مجلس تأديب بعد اتهامه بالاشتغال بالسياسة في أعقاب إصدار بيان عقب الانقلاب العسكري عام 2013 دعا كافة الأطراف إلى احترام الدستور. كان مقرراً أن يتولى رئاسة مجلس القضاء الأعلى بحسب الأقدمية العام المقبل لولا الإطاحة به وتعديل آلية التعيين.