من أبو محمد الجولاني إلى أحمد الشرع... سيرة التحولات

07 ديسمبر 2024
الجولاني بشمال إدلب، 7 فبراير 2023 (عمر حج قدور/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- برز أبو محمد الجولاني كقوة مؤثرة في سوريا بعد تحقيق تقدم عسكري ضد النظام السوري، مستخدمًا تكتيكات مبتكرة وتجنب معارك دموية، مما عزز مكانته كقائد قوي.
- تبنى الجولاني خطابًا تصالحيًا تجاه جميع مكونات الشعب السوري وقدم صورة مدنية للفصائل، مما ساعد في تعزيز سيطرته على المناطق وأظهر هيئة تحرير الشام ككيان مختلف.
- مر الجولاني بتحولات كبيرة منذ انشقاقه عن داعش، حيث غير اسم جبهة النصرة وفك ارتباطها بالقاعدة، مما أكسبه شعبية رغم الشكوك المحيطة بخططه المستقبلية.

حتى أشهر مضت كانت التظاهرات تخرج ضد زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني قبل أن يحتل المشهد السوري مجدداً بعد التقدم غير المسبوق وغير المتوقع الذي حققته غرفة عمليات "ردع العدوان" التي يقودها ضد النظام، مترافقة مع تقديم نفسه في هيئة جديدة تشكل ما يشبه القطيعة مع ماضيه المليء بالانتهاكات والإقصاء، إذ انتقل من استخدام اسم مستعار إلى اسمه الحقيقي أحمد الشرع، فضلاً عن تبنيه خطاباً تصالحياً تجاه جميع مكونات الشعب السوري بما في ذلك الأقليات، مقدماً نفسه باعتباره رجل سورية الأقوى حالياً والهادف إلى تخليص السوريين من نظام بشار الأسد.

على المستوى الميداني، استطاع أبو محمد الجولاني أن يقود معركة تميزت بالانضباط الشديد وبالاشتراك مع فصائل من "الجيش الوطني السوري"، الذي كان يتنافس معه سابقاً في السيطرة على المناطق. واستطاع أبو محمد الجولاني استخدام تكتيكات عسكرية غير مسبوقة أدت إلى تشتيت قوات النظام وفرارها، وبالتالي السيطرة على مساحات جغرافية واسعة لم تكن متوقعة، بالإضافة إلى خطط سمحت لعناصر النظام بالهرب، ما جنب المدن الكبرى معارك قد تؤدي إلى مجازر. كما كان توقيت المعركة غاية في الدقة لناحية الظرف الدولي الذي كان ملائماً لتجنب ردود فعل عنيفة من داعمي النظام.

صدّر الجولاني خطاباً سياسياً متوازناً لجميع الدول، بما فيها تلك الداعمة للنظام

وعلى المستوى السياسي، صدّر خطاباً سياسياً متوازناً لجميع الدول، بما فيها تلك الداعمة للنظام، خصوصاً العراق. كما وجه خطابات طمأنة لجميع فئات الشعب، ترافقت مع أداء منضبط لعناصر الفصائل ساهمت بشكل كبير بسيطرة سلسة على المناطق، وخاصة على مدينة حلب المتعددة الطوائف والثقافات.
وعلى المستوى الإعلامي، صدّر صورة مدنية حضارية للفصائل التي تقوم بالعملية، وأخرى بصرية له بلباس مدني ولحية قصيرة. كما غيّر أبو محمد الجولاني اسمه الحركي واعتمد على اسمه الحقيقي، من خلال عملية متكاملة أراد من خلالها أن يقول لسكان المدن أن هيئة تحرير الشام ليست جبهة النصرة السابقة، وأنه هو أيضاً ليس أبو محمد الجولاني الموضوع على قوائم الإرهاب، بل هو أحمد الشرع الذي جاء ليخلص السوريين من الظلم ويقيم دولة مؤسسات.

سيرة أبو محمد الجولاني

أبو محمد الجولاني هو أحمد حسين الشرع الذي ولد في العام 1982، بحسب ما صرح به هو لوسائل إعلام غربية. وبحسب العديد من الدراسات والتقارير الغربية، فقد ولد في العاصمة السعودية الرياض في بيئة متعلمة ومحافظة. كان أبوه من متبني الفكر القومي العربي، وعمل في سبعينيات القرن الماضي مستشاراً اقتصادياً نفطياً، فيما كانت أمه مدرّسة لمادة الجغرافيا. عاد مع أسرته في العام 1989 لدمشق، حيث درس فيها الابتدائية والثانوية وسجل في التعليم الجامعي المفتوح في قسم الإعلام ليتركها ويلتحق بالتنظيمات المتشددة في العراق في العام 2003، حيث التحق بتنظيم "سرايا المجاهدين" في الموصل وبايع أبو مصعب الزرقاوي، ليسجن منذ 2004 إلى 2010 في معسكر بوكا بعدما تم إلقاء القبض عليه من قبل الأميركيين، ليلتحق بعدها بتنظيم داعش في العراق.

جاء أبو محمد الجولاني في منتصف 2011 إلى مدينة بنش التابعة لمحافظة إدلب، شمال غربي سورية، قادماً من العراق برفقة أبو محمد العدناني (طه صبحي فلاحة)، بصفة مندوبين لزعيم "داعش" أبو بكر البغدادي، وأبلغا وجهاء من سكانها الذين انتفضوا في وجه النظام السوري بأن مظلمة تقع على الشعب من قبل النظام وأنهما يعملان لنصرة السوريين في رد تلك المظلمة، ليشكل الرجلان في نهاية العام 2011 ما سمي بجبهة النصرة، فرعاً لتنظيم داعش.

كانت شخصية أبو محمد الجولاني المثيرة للجدل، بحسب الذين التقوا به في حينه، طامحة وصارمة، وفي الوقت نفسه تتمتع بالكثير من الديناميكية، إذ استطاع خلال فترة وجوده في سورية تشكيل علاقات قوية مع طيف واسع من البيئة المحافظة في محافظة إدلب، وأخرى مع وجهاء وتيارات مختلفة في المحافظة وخارجها. كما حافظ على علاقات جيدة مع التنظيمات الإسلامية التي تم تشكيلها في تلك الفترة، وخاصة حركة أحرار الشام، التي كان يسمي أفرادها بإخوة المنهج.

انشقاق الجولاني عن البغدادي

وفي العام 2013 كان التحول الأول الذي قام به أبو محمد الجولاني حين انشق عن أبو بكر البغدادي، الذي فك ارتباطه بتنظيم القاعدة وشكل دولة العراق الإسلامية تنظيماً مستقلاً عن القاعدة، الأمر الذي أدى إلى انقسام جبهة النصرة إلى فريقين، الأول بقيادة أبو محمد العدناني، الذي شكل مع البغدادي "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، فيما قاد الفريق الثاني أبو محمد الجولاني، الذي أبقى على ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، لتدور حرب ضروس بين الفريقين استطاع خلالها الجولاني طرد "داعش" خارج حدود محافظة إدلب. وفي العام نفسه صنفت وزارة الخارجية الأميركية أبو محمد الجولاني إرهابياً عالمياً، ورصدت مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى إلقاء القبض عليه، كما صنفت جبهة النصرة منظمةً إرهابية.

غيّر الجولاني اسم جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام في محاولة لرفع اسمه واسم تنظيمه عن لوائح الإرهاب

لم يعمل تنظيم جبهة النصرة في تلك الفترة على التدخل في شؤون المدنيين في محافظة إدلب التي كانت تديرها حركة أحرار الشام، بل اكتفى بإقامة مقرات له خارج المدن، وساهم مع الحركة وفصائل أخرى في السيطرة على مدينة إدلب. وأكسب وصول تلك الفصائل حينها إلى ريف حماة الشمالي "النصرة" شعبية واسعة ضمن المحافظة. وبدأت جبهة النصرة في تلك المرحلة بإقصاء فصائل المعارضة عن المنطقة فصيلاً تلو الآخر من خلال شيطنتها أمام الرأي العام واتهامها بالفساد ومن ثم الإجهاز عليها.

بعد التدخل الروسي لصالح النظام في العام 2015 وتراجع قوات المعارضة، بدأ أبو محمد الجولاني العمل على فرض مناطق سيطرة له ضمن المحافظة، معتمداً على الشعبية التي اكتسبها. فعمد في 2016 إلى فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة وغير اسمها إلى "جبهة فتح الشام"، في محاولة منه لرفع اسمه واسم تنظيمه عن لوائح الإرهاب، إلا أن المجتمع الدولي تعامل مع هذا التغيير باعتباره شكلياً، فقام في العام 2017 بإدماج تنظيم "جبهة فتح الشام" مع فصائل أخرى من المعارضة المسلحة، وشكل هيئة تحرير الشام. كما تنحى أبو محمد الجولاني عن قيادة هذا التشكيل الجديد محتفظاً لنفسه بمنصب القائد العسكري له. إلا أن كل تلك التغييرات لم تساعد في إزاحته عن قوائم الإرهاب، بل وضعت الفصائل التي انضوت مع تنظيمه ضمن تلك القوائم. وفي العام نفسه حاصرت الهيئة مقرات حركة أحرار الشام واستولت على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا وفرضت سيطرتها المطلقة على المنطقة، وأنشأت حكومة مدنية سمّتها "حكومة الإنقاذ" لإدارة شؤون سكان المنطقة.

بدأ أبو محمد الجولاني ومنذ السيطرة على إدلب، بتغيير سياسته المتشددة بشكل تدريجي ومتسارع، فألغى لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كانت تتدخل بشؤون المواطنين وأعطى هامشاً من الحريات، وبدأ بالتوجه للرأي العام الغربي، فأجرى عدداً من اللقاءات الصحافية مع صحف غربية، أبدى فيها انفتاحه على التغيير. وأجرى الجولاني أول مقابلة إعلامية له في العام 2013، وكان ظهره للكاميرا وغطاء أسود يلف ما ظهر من رأسه ووجهه. ودعا في المقابلة مع قناة الجزيرة وقتها إلى حكم سورية وفقاً للشريعة الإسلامية. وبعد حوالي ثماني سنوات، أجرى مقابلة مع برنامج "فرانت لاين"، على محطة الشبكة التلفزيونية الأميركية (بي.بي.إس)، مواجهاً الكاميرا وهو يرتدي قميصاً وسترة. وقال وقتها إن من الظلم تصنيفه إرهابياً وإنه يعارض قتل الأبرياء، مشدداً على أن جماعته لم تشكل تهديداً للغرب مطلقاً.

كما تخلص أبو محمد الجولاني من الفصائل الأكثر تشدداً، فقضى على كل رفاق الأمس بدءاً من تنظيم جند الأقصى، الذي كان ذراعاً لجبهة النصرة، إلى تنظيم حراس الدين الذي يتبع لتنظيم القاعدة، وجزء من التركستان. كما يعتقد الكثير من المحللين أن للجولاني دوراً كبيراً في تحديد إحداثيات لمواقع بعض القادة المتشددين الذين تم استهدافهم في إدلب، وفي مقدمتهم زعيم تنظيم داعش الأول أبو بكر البغدادي. كما يتهم أبو محمد الجولاني بأنه وراء التخلص حتى من منافسيه الذين يتشاركون معه بالفكر المتجه نحو الاعتدال، مثل أبو ماريا القحطاني. لكن هذه التحولات لا تبدو قادرة على إنهاء الشكوك حول خططه المستقبلية، لا سيما في ظل الانتهاكات التي كان يمارسها عبر الهيئة.

 

وبموازاة ابتلاع النصرة الفصائل العسكرية المعارضة كانت تُلاحق الناشطين المؤيدين للثورة السورية، وكان عناصرها يمنعون رفع علم الثورة، ولكن بعد تحوّل الجولاني بجبهة النصرة وتشكيل هيئة تحرير الشام اتخذ علم الثورة راية للهيئة، وبدأ بالتحدث باسم الثورة كواحد من مظاهر التحوّلات البراغماتية التي قام بها، إلا أنّه لم يكف عن ملاحقة منتقديه وعن ملاحقة الناشطين المدنيين، فشكّل جهاز أمن ضخماً يُتابع حتى صفحات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي ويحاسب كل من ينتقد أداء الهيئة، وبدأ باتباع أسلوب فرض ضرائب وإتاوات على كل الخدمات والأعمال التي تنفّذ ضمن مناطق سيطرته، فقامت مظاهرات تطالبه بالاستقالة تتهمه بمهادنة النظام، وقد حاول إخمادها ببعض الوعود إلى أن قام بالعملية العسكرية الأخيرة التي غفرت له ما تقدّم من ذنبه أمام جمهور الثورة الذي التفّ حوله كمخلّص له من نظام الاستبداد، مدفوعاً بعاطفة الانتصار وبفكرة أنه بعد إزاحة نظام الأسد كل شيء هيّن.

وفي السياق، قال جوشوا لانديس، الخبير في الشأن السوري ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، إن "الجولاني أكثر ذكاء من الأسد. غيّر أدواته وغيّر مظهره العام وعقد تحالفات جديدة وأطلق رسالته المتوددة" للأقليات. وقال الباحث في مركز سينتشوري إنترناشونال للأبحاث آرون لوند، لوكالة رويترز، إن الجولاني وهيئة تحرير الشام تغيّرا بشكل ملحوظ، لكنه أشار إلى أنه وجماعته ظلا "على نهج التشدد إلى حد ما". وأضاف: "إنها حملة علاقات عامة، لكن حقيقة أنهم يبذلون هذا النوع من الجهد أصلاً تظهر أنهم لم يعودوا بالتشدد ذاته الذي كانوا عليه. الحرس القديم من القاعدة أو الدولة الإسلامية (داعش) لم يكن ليفعل ذلك أبداً". وأضاف: "تبنوا شعارات الثورة السورية... ويستخدمونها الآن ويحاولون ربط أنفسهم بإرث الثورة: نحن جزء من حراك عام 2011، الناس الذين ثاروا ضد الأسد لكننا أيضاً إسلاميون".

المساهمون