أوقدت حملة التجنيد التي تنفذها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، في شرق نهر الفرات وغربه، شرارة الاحتجاجات في مدينة منبج، الواقعة في ريف حلب الشمالي الشرقي، والتي تخللها إضراب عام وتظاهرات قُتل فيها مدني وأصيب آخرون. وبدأت "قسد" منذ أيام حملة لتجنيد الشبان من مواليد 1990 وحتى 2003، في سياق ما تسمّيه "واجب الدفاع الذاتي"، عبر ملاحقة شرطتها العسكرية الشبان واعتقالهم من منازلهم. وأثارت خطوات "قسد" استياء الأهالي، الذين باشروا إضراباً عاماً في منبج،
وخرجت تظاهرات منددة في المدينة وقرى في محيطها. وأُصيب خمسة مدنيين بجروح جراء إطلاق النار من "قسد"، أمس الثلاثاء، تزامناً مع مفاوضات كانت تجري بين قياديي "قسد" ووجهاء محليين، بهدف تهدئة التوتر. وأفادت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، بأن من بين المصابين ثلاثة مدنيين أُصيبوا بجروح نتيجة إطلاق النار من حاجز لـ"قسد" على تظاهرة كانت تحاول الوصول إلى منبج. وأفادت المصادر بأن الأهالي تجمّعوا بناحية حاجز الخطاف على أطراف مدينة منبج، مواجهين الحظر الذي فرضته "قسد" في المنطقة. وبعد تجمعهم تقدموا باتجاه الطريق بهدف الدخول إلى المدينة، فأطلق الحاجز الرئيسي النار على المتظاهرين لمنعهم من التقدم. وأشارت المصادر إلى أن إطلاق النار وسقوط الجرحى دفع بالمتظاهرين إلى مواجهة الحاجز وإجباره على التراجع نحو المدينة، وقاموا بإحراقه، قبل أن تعود مدرعات "قسد" للتمركز في النقطة.
وفد روسي في منبج لمتابعة مفاوضات "قسد" والأهالي
وقالت المصادر إنه في غضون ذلك كانت تجري مفاوضات بين "قسد" ووجهاء من المدينة والمناطق المحيطة، ورافقها وصول وفد روسي إلى المربع الأمني التابع لـ"قسد" في المدينة بهدف الاطلاع على المفاوضات. وكشفت المصادر أن أحد القياديين في "مجلس منبج العسكري" التابع لـ"قسد"، وهو إبراهيم البناوي، وعد الأهالي عند تجمعهم في ناحيتي الهدهود والكرسان بمحيط منبج، بعدم اعترضاهم على حواجز "قسد"، إلا أن ذلك لم يحدث. وذكرت مصادر محلية لـ"العربي الجديد"، أن "مجلس منبج العسكري" واجه التظاهرات بالرصاص، ما أدى إلى مقتل شخص في قرية الهدهود في ريف منبج.
وحاول المجلس التنصّل من المسؤولية، مدّعياً في بيان، أن قوات النظام السوري الموجودة في بعض مناطق ريف منبج "أطلقت النار على تجمع للمدنيين في قرية الهدهود، ما أدى إلى مقتل مدني وإصابة ثلاثة آخرين". وأضاف أن "مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية وفي منبج وريفها بشكلٍ خاص، تعيش حالةً من الاستقرار الأمني والسلم الأهلي، لا يستسيغها المتربصون بأمن واستقرار مدينتنا، سواء من مرتزقة درع الفرات أو من جهاتٍ أخرى"، في اتهام لفصائل المعارضة السورية وقوات النظام بإثارة القلاقل في منبج. وفي محاولة لتطويق الأحداث، للحيلولة دون اتساعها، فرض "مجلس منبج العسكري" حظر تجول في مدينة منبج، ابتداء من الساعة الواحدة بعد منتصف ليل أول من أمس، الإثنين، لمدة 48 ساعة.
وأكدت مصادر محلية مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن قيادة المجلس باشرت، أمس الثلاثاء، عقد لقاءات مع وجهاء وشيوخ عشائر ورجال أعمال في منبج، لإنهاء الإضراب والاحتجاجات التي كان لها صدى في منطقة شرقي نهر الفرات، بعد صدور دعوات، أول من أمس الإثنين، في مدينتي الطبقة والرقة وبلدة المنصورة، للإضراب احتجاجاً على سياسة التجنيد الإجباري. وأوضحت المصادر أن مجموعة من الوجهاء والشيوخ شكّلوا وفداً من عشائر البوبنّا، والبوسلطان، وبني عصيد، وبني سعيد، والمجادمة، والطي، والصريصات بهدف الاجتماع مع قيادة "مجلس منبج العسكري" لعرض المطالب الشعبية، بما يخص وضع التجنيد والوضع المعيشي والخدمي. ورجحت المصادر التوصل إلى تهدئة مع "المجلس"، "لأن اتساع نطاق الاحتجاجات سيكون بوابة لعودة محتملة لقوات النظام، وهو ما يرفضه معظم سكان المدينة".
وتحدث أحد سكان المدينة لـ"العربي الجديد"، لكنه تحفظ عن ذكر اسمه، قائلاً إنه "من غير المعقول أن شخصاً عمره 30 عاماً يجري سوقه إلى التجنيد الإجباري، وهذا الشخص لديه أطفال ولديه التزامات تجبره على العمل من أجل تأمين لقمة العيش". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أن الأمر "تفاقم في المدينة عندما بدأت قسد بإجبار العمال والموظفين والطلاب على التجنيد الإجباري، في مقابل عدم تقديمها أي مستوى من الخدمات، خصوصاً للعائلات". واعتبر أن هذه النوعية من عمليات التجنيد تدفع الأطفال للعمل في ظل غياب الآباء.
اتهم "مجلس منبج العسكري" عناصر النظام بإطلاق النار
ويضع الكاتب حسن النيفي، وهو من أبناء مدينة منبج، التطورات في سياق "تراكم الغضب جراء السياسات المتبعة من قوات قسد، الاقتصادية والأمنية". ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "قسد تحتكر كل أشكال التجارة في منبج ومحيطها. هناك غلاء في أسعار الإسمنت، وجاءت حملة التجنيد لتشكّل سبباً مباشراً لاندلاع الاحتجاجات على مجمل سياساتها". ويوضح أن مدينة منبج وريفها "لها طابع عشائري، بالتالي هناك حالة من التضامن الآن بين العشائر العربية، بعد مقتل متظاهر ينتمي إلى عشيرة البوسلطان".
ولطالما كانت مدينة منبج محل خلافات بين مختلف أطراف الصراع في سورية، نظراً لموقعها الجغرافي لجهة توسطها الشمال السوري. وحاولت الفصائل المعارضة المدعومة من الجيش التركي خلال عامي 2018 و2019 التقدم باتجاه منطقة منبج، انطلاقاً من منطقة درع الفرات في ريف حلب الشمالي، إلا أن الجانب الأميركي حال دون ذلك. وكان من الواضح أن القوات الأميركية المتمركزة في منبج منذ عام 2016 سترد بقوة على أي محاولة تركية للسيطرة على المدينة.
وتفاوض الأتراك مع الأميركيين حول مصير منطقة منبج أكثر من مرة، مع مطالبة أنقرة بدفع الأكراد إلى شرق نهر الفرات وإنهاء وجودهم في غربه. وتوصل الجانبان لاتفاق في بداية عام 2018 ينص على انسحاب الوحدات الكردية من منطقة منبج، إلا أنه لم ينفذ. وتجدد التنافس على مدينة منبج أواخر عام 2019 خلال عملية تركية في منطقة شرقي نهر الفرات ضد "قسد"، التي لجأت إلى الجانب الروسي في حينه لإيقاف القوات التركية عند حدود معينة، في مقابل السماح للروس بالتمركز في منطقة شرقي نهر الفرات، وهو ما تحقق. وحاولت قوات النظام استغلال الأوضاع التي كانت تمر بها قوات "قسد" والتقدم باتجاه منبج، إلا أنها لم تنجح.