فتحت التسجيلات الصوتية الجديدة المسربة الأسبوع الماضي في العراق، والتي كشفت عن قيام فصائل مسلّحة بأعمال احتيال وابتزاز، أو بأفعال وأنشطة لا إنسانية، تساؤلات عدة حيال ممارسات المليشيات في المدن المحررة شمال وغربي البلاد، وضواحي العاصمة بغداد، لاسيما المليشيات التي تدّعي أنها تتبع هيئة "الحشد الشعبي"، في حين ينفي "الحشد" صلته بها.
ومن ضمن الممارسات التي كشفت عنها التسريبات الصوتية، قيام فصائل مسلحة بحالات اختطاف لمصابين بأمراض عقلية وإلباسهم سترات ناسفة، ثم الإعلان عن إحباط هجمات انتحارية. وكذلك اعتقال أشخاص وتركهم أسابيع عدة حتى تطول لحاهم وتصويرهم بعد ذلك على أنهم قيادات في تنظيم "داعش"، طمعاً في المكافآت أو تعزيز مكانتهم الميدانية والحصول على مساعدات مالية.
"أئمة البقيع"... مليشيا الظلّ في ديالى
وجاء في اعتراف أحد أعضاء مليشيا "أئمة البقيع"، التي تنشط في محافظة ديالى، والذي نشره الصحافي العراقي علي فاضل، أن "الجماعة (أئمة البقيع) يحصلون على آلاف الدولارات من النواب الجدد وبعض المسؤولين في الدولة، عبر الابتزاز، والتوسط لهم في بعض المعاملات الإدارية. وقد خضع عدد من النواب للتهديدات والابتزاز، مثل النائبين علاء الركابي وهيثم الجبوري".
فصيل "أئمة البقيع" يحظى بدعمٍ من زعيم حزب "الدعوة" نوري المالكي
وأكد الكشف عبر تسجيل صوتي أن "أعمالاً لا إنسانية تقوم بها هذه الجماعة وجماعات أخرى، ومنها اختطاف (المصابين بأمراض عقلية) من بغداد، وتفجيرهم، ضمن تحضيرات بشكل مسبق على أنهم من تنظيم داعش في مناطق ديالى وبابل، وذلك من أجل البقاء في تلك المناطق، وإيصال رسالة إلى أهمية وجودهم (وجود الجماعة)".
وسبق أن أعلن "الحشد الشعبي"، عدم وجود فصيل مسلح ضمن "الحشد" باسم "أئمة البقيع"، معتبراً إياه من الجماعات الوهمية، وقد أقدم على اعتقال قادة الفصيل في عام 2019، لكن النائب همام التميمي تدخّل حتى تم الإفراج عن قادته.
ووفقاً لعضو سابق في مجلس محافظة ديالى، فإن فصيل "أئمة البقيع" يحظى بدعمٍ من زعيم حزب "الدعوة" نوري المالكي، بشكلٍ مباشر، وأن الأخير يرى في مسلحي هذه المليشيا درعاً بشرياً له في ما يحتاجه من محافظة ديالى.
"الحشد الشعبي"... منهاج عمل في خرق القانون
وتواصل "العربي الجديد" مع أكثر من مصدر داخل "الحشد الشعبي"، وأكد معظمهم أن "عددا غير قليل من الفصائل المسلحة داخل الحشد الشعبي، تمتلك أجنحة ظلّ مرتبطة بقادة الفصائل، وتقوم بتنفيذ نشاطات تجارية واقتصادية وممارسات طائفية، وتهديد ناشطين". ولفتت المصادر إلى أنه "بناء على ذلك، فإن حالات خرق القانون لا تصدر فقط عن الفصائل الوهمية، بل إنها ضمن مناهج عمل الفصائل المنضوية ضمن الحشد الشعبي".
وقال أحد المصادر، إن "أئمة البقيع، هو واحد من 7 مليشيات لا تنتمي للحشد الشعبي، وتمارس أدواراً تجارية ونشاطات عدة". وأضاف أنه "في البصرة، يوجد (جيش المختار) الذي يديره بعض المقربين من رجل الدين واثق البطاط، إضافة إلى كتائب (الدرع الحصين) في بغداد، القريبة من نوري المالكي، وفي بغداد أيضاً هناك جماعة (الثأر)، وتنشط في ضواحي ومناطق تقع شمال شرقي العاصمة".
وأكد المصدر لـ"العربي الجديد"، أن "هذه المليشيات لا علاقة لها بالحشد، كما أن وزارة الدفاع تنفي دائماً علمها بها. لكن مع ذلك فإن السلطات لا تستطيع أن تمنعها بسبب الدعم السياسي لها".
ولفت المصدر إلى أن عدد عناصر هذه المليشيات الإجمالي يبلغ نحو 30 ألف شخص، وكلّهم غير مسجلين في قوائم الحشد الشعبي التي تتلقى رواتب شهرية، لكن عملياً لديهم معسكرات ومقرات. وأضاف أنه "يمكن القول إن تمويل هذه المليشيات ذاتي هجين، من مساعدات سياسية لأحزاب وعبر أنشطة خاصة أغلبها غير شرعي".
نور نافع: القضاء والجهات الرقابية والأمنية لا تحاسب المليشيات غير المدرجة لدى الجهات الرسمية
وأشار إلى أنه "تمّت تقوية وجود هذه المليشيات قبل الانتخابات الأخيرة (الانتخابات التشريعية التي حصلت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي) عبر محاولات كسب أصواتهم من قبل أحزاب وكتل عدة، أبرزها تحالفا دولة القانون والفتح".
من جهته، قال القيادي في "الحشد الشعبي" محمد البصري، إن "هيئة الحشد غالباً ما تصدر بيانات تتحدث فيها عن براءتها من الجماعات المسلحة التي تدّعي الانتماء للحشد، وقد اقتحم الحشد الشعبي في أكثر من مرة مقرات تلك الجماعات وأقدم على إغلاقها". وأضاف أن "جماعة أئمة البقيع، لعلّها واحدة من الجماعات التي لا تنتمي للحشد، بالتالي فإن حكومة مصطفى الكاظمي هي المسؤولة عن محاسبتهم، طالما أن الحشد أخلى مسؤوليته".
وشدّد البصري، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن "استغلال اسم الحشد مرفوض، وقد حدث أن استغلت بعض الجماعات هذا الاسم من أجل تحقيق مكاسب سياسية ومالية". وبرأيه، فإنه "لا بد من عدم إنكار وجود هجمة إعلامية كبيرة ضد الحشد الشعبي، الذي يتجه إلى القانون لمحاسبة هذه الأدوات الإعلامية".
دعم سياسي خفي لمليشيات الظلّ في العراق
وأشارت النائبة عن حركة "امتداد"، نور نافع، إلى أن "هناك جماعات في مناطق متفرقة من العراق، تدّعي أنها جزء من (حشد وزارة الدفاع)، والحشد الشعبي"، لكن برأيها، فإن "هذه الجهات لا تقوم بالمحاسبة، كما أن القضاء والجهات الرقابية والأمنية لا تحاسب المليشيات غير المدرجة لدى الجهات الرسمية، ما يؤكد أنها تحظى بدعمٍ سياسي خفي".
واعتبرت نافع، في اتصال مع "العربي الجديد"، أن "ما صدر أخيراً من تسجيلات صوتية تدين جماعة أئمة البقيع، لم يسفر عن أي تحرك قضائي تجاه قادة هذه الجماعة، والحال ذاتها تنطبق على جماعات مسلحة أخرى في جنوبي العراق، تحظى بغطاء سياسي واضح، ومن جهات محددة لدى جميع المراقبين".
وفي هذا السياق، رأى العضو السابق في البرلمان العراقي مثال الآلوسي، أن "الحشد الشعبي بحاجة إلى إعادة هيكلة بالكامل، وحلّه ثم دمج المقاتلين الحقيقيين في الأجهزة الأمنية". وبرأيه، فإن هذا التوجه يتعزز "لاسيما مع تورطه في مسائل لا تنسجم مع طبيعة عمله، إضافة إلى الفساد الذي يمارسه بعض قادته، وتشكيل فصائل ومليشيات لا تنتمي للدولة لكنها تتخفى تحت عنوانه".
لا تمتلك الحكومة أو الحشد قاعدة بيانات واضحة عن المسلحين والمليشيات التي ترتبط ببعض الهيئات والمؤسسات
وأوضح الآلوسي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هيئة الحشد الشعبي والدولة العراقية الحالية لا تمتلك قاعدة بيانات واضحة عن المسلحين والمليشيات التي ترتبط ببعض الهيئات والمؤسسات". ولفت إلى "أن السلطات تخشى الاحتكاك بالمليشيات مثل "أئمة البقيع وربع الله وكتائب المهندس" وغيرها، التي تبتز السياسيين والأحزاب والقادة الأمنيين".
وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، أقر البرلمان، بضغط من القوى والأحزاب الحليفة لإيران، مشروع قانون "هيئة الحشد الشعبي"، الذي اعتبر بموجبه المليشيات المسلحة التي تشكلت عقب اجتياح تنظيم "داعش" البلاد منتصف عام 2014، أو ما قبلها، وحدات عسكرية مرتبطة بالحكومة. لكن القانون عزل هذه المليشيات عن تشكيلات وزارتي الدفاع والداخلية واعتبرها هيئة مستقلة بذاتها، ولها رئيس ورئيس أركان وقادة ألوية مسلحة بدلاً من مصطلح فصيل أو جماعة. إلا أن القانون ما زال يطبق انتقائياً في ما يتعلق بصلاحيات تلك الفصائل وطبيعة عملها.
وتنضوي تحت مظلة "هيئة الحشد الشعبي"، أكثر من 70 مليشيا مسلحة بمجموع مسلحين يبلغ، وفقاً لأرقام رسمية في موازنة العراق المالية لعام 2021، نحو 115 ألف عنصر، وبمعدل بين 3 إلى 15 ألف عنصر لكل مليشيا. وأغلبها يصنف على أنه حليف لطهران، مثل كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، والإمام علي، وسرايا عاشوراء، وبدر، وكتائب سيد الشهداء، والخراساني، وجيش المؤمل، والمختار الثقفي، وغيرها.
من جهتها، اختارت الفصائل الأخرى المرتبطة بالنجف، أبرزها "فرقة الإمام علي"، و"لواء علي الأكبر"، و"فرقة العبّاس القتالية"، و"لواء أنصار المرجعيّة"، النأي بنفسها عن هيئة الحشد بعد خلافات احتدت خلال العامين الماضيين. والتحق بها زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر، عبر سحب جناحه المسلح "سرايا السلام"، من مظلة الهيئة وقراراتها.