كشفت عودة قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى اقتحام مخيم جنين 3 و4 يوليو/تموز الجاري، بعد 21 عامًا من اجتياح الضفة الغربية المحتلة، في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، عن متغيراتٍ مهمةٍ تؤشر إلى مرحلةٍ جديدةٍ من تطور المقاومة الفلسطينية في مواجهة تصاعد المشروع الإسرائيلي، في ظل عجزٍ عربيٍ عن تقديم الاستجابة المطلوبة للتحدي الإسرائيلي، (بدلًا من تسريع التطبيع مع دولة الاحتلال)، واستمرار التجاهل الدولي للمعاناة الفلسطينية، مع الانشغال الأميركي بأولويات الحرب الروسية الأوكرانية، وتطورات الملف النووي الإيراني، وتحديات التعامل مع تصاعد دور الصين العالمي.
وعلى غرار ما فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق؛ أرئيل شارون، إبان اجتياح قوات الاحتلال، الضفة الغربية المحتلة عام 2002، بعد ساعاتٍ قليلةٍ من اعتماد القمة العربية في بيروت لـ "مبادرة السلام العربية"، كذلك لم تكترث حكومة بنيامين نتنياهو بإعلان القمة العربية الثانية والثلاثين في جدة؛ 19/5/2023، عن استمرار الالتزام العربي بمبادرة السلام العربية وحل الدولتين، ومضت سلطات الاحتلال في اقتحامها مخيم جنين.
إن تداعيات المرحلة الانتقالية، التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، تزيد من وزن العامل الذاتي التحرري الفلسطيني
ولا شك أن استمرار الرهان العربي على التسوية، بوصفها "خيارًا استراتيجيًا عربيًا"، يشجع الحكومات الإسرائيلية على تصعيد ممارساتها العدوانية، ما دام سقف المواقف الرسمية العربية لن يتجاوز "الإدانات اللفظية" على الانتهاكات الإسرائيلية، وإعادة طرح "مبادرة السلام العربية"، وربما تقديم بعض المساعدات المالية للفلسطينيين، التي "لا تسمن ولا تغني من جوع".
ولعل مقارنة المواقف العربية والإقليمية من اقتحام مخيم جنين في زمنيْن مختلفين، تكشف أمرين؛ أحدهما أن تبني "مبادرة السلام العربية" عام 2002، لم يعبر عن إرادةٍ حقيقيةٍ للضغط على إسرائيل، أو حتى إصلاح أضرار تجزئة مسارات التفاوض العربية الإسرائيلية، عبر إعادة تجميعها في مسارٍ واحدٍ يلتزم شرطًا أساسيًا واحدًا، (أي الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة في يونيو/حزيران عام 1967، مقابل التطبيع العربي مع إسرائيل)، ناهيك عن افتراض أن ثمة إرادةٌ سعوديةٌ/ عربيةٌ لدعم قضية فلسطين وشعبها دعمًا فعليًا، أي أبعد من الدعم اللفظي/ الخطابي.
والآخر تآكل أهمية المواقف العربية الجماعية، الصادرة عن جامعة الدول العربية، سواء من اقتحام مخيم جنين، أم من قضية فلسطين عمومًا، وبروز أهمية موقف الجزائر في هذه المرحلة، مقارنةً بذهاب المملكة المغربية إلى حد توجيه دعوةٍ لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي؛ بنيامين نتنياهو، لزيارة المغرب.
وعلى الرغم من أن تقدم الدور الجزائري في دعم فلسطين، لا يخلو من اعتباراتٍ تنافسيةٍ (وربما صراعيةٍ أيضًا) مع مصر والسعودية والمغرب، فإنه يستبطن "توجهًا سياسيًا صحيحًا"، يقوم على إبعاد الفاعل الإسرائيلي عن إقليم المغرب العربي خصوصًا، والقارة الأفريقية عمومًا، وربما يمكن تطويره نحو تشكيل الجزائر ائتلافًا دبلوماسيًا عربيًا لدعم قضية فلسطين، مع وجود إمكانية لتوسيع هذا الائتلاف، أفريقيًا وآسيويًا ودوليًا، (عبر التنسيق مع دولٍ مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وتركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والفاتيكان وروسيا والبرازيل.. إلخ).
وصحيحٌ أن تصاعد تأثير البعد الإقليمي في قضية فلسطين، وصعود الدوريْن التركي والإيراني في إقليم الشرق الأوسط، يحمل فرصًا أكبر لدعم القضية الفلسطينية، بسبب وزن الدولتين وامتلاكهما أوراق ضغطٍ ومساومةٍ تمكنهما من التعامل مع انفلات الإجرام الإسرائيلي المدعوم دوليًا، بيد أن هذا البعد الإقليمي لا يزال بحاجة إلى غطاءٍ/ دعمٍ عربيٍ حتى يؤتي ثماره المرجوة، خصوصًا من مصر والسعودية.
أما الاستنتاج الأهم الذي كشفته معركة جنين فيتعلق بإمكانية إحراز نجاحاتٍ فلسطينيةٍ، وتطويرها لمستويات أعلى، عبر تراكم الخبرات والتجارب، على الرغم من القيود والمحددات التي تفرضها التراجعات العربية؛ إذ جاء صمود مخيم جنين، وبروز الروح الكفاحية للمقاومة الفلسطينية، متزامنيْن مع تراجع البعد العربي في دعم فلسطين، وتسارع الانخراط العربي والإقليمي في التطبيع مع إسرائيل، ما يؤكد أولوية العامل الذاتي المحلي، في تعزيز مسار النضال الفلسطيني، والقدرة على تقديم نموذج "صمودٍ ملهمٍ" أمام آلة الحرب الإسرائيلية، على الرغم من محدودية الإمكانات الفلسطينية، سواء في جنين أم غيرها من مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها، التي يخوض شبابها وناسها مواجهاتٍ متكررةٍ مع المستوطنين وقوات الاحتلال.
استمرار الرهان العربي على التسوية، بوصفها "خيارًا استراتيجيًا عربيًا"، يشجع الحكومات الإسرائيلية على تصعيد ممارساتها العدوانية
واستطرادًا في التحليل، تحتاج هذه الحالة "الثورية المتمردة "، التي يطرحها مخيم جنين، إلى دراسةٍ وبحثٍ وتمحيصٍ أعمق لفهمها أولًا، ثم كشف آليات تطويرها والاستفادة منها في تجديد النضال الفلسطيني ثانيًا، عبر مقارنتها مع الانتفاضات الفلسطينية المتكررة، بغية الوقوف على مستوى التجدد في فعل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، سيما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ في 24/2/2022، ونجاح جيل الشباب الفلسطيني (بعد نمو الحاضنة الشعبية للمقاومة)، في إفشال أهداف ما سمي من قبل الاحتلال بحملة "كاسر الأمواج" في الضفة الغربية المحتلة، التي أطلقتها حكومة نفتالي بينت السابقة، في إطار محاولاتها استعادة "الردع الإسرائيلي".
يبقى القول، إن تداعيات المرحلة الانتقالية، التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، تزيد من وزن العامل الذاتي التحرري الفلسطيني، مع احتمال اندلاع انتفاضةٍ فلسطينيةٍ شاملةٍ جديدةٍ تغير الحسابات؛ فالعوائق الخارجية يمكنها أن تعيق النضال الفلسطيني لفترةٍ من الزمن، لكنها لا تستطيع منعه بالمطلق، ولا يمكنها منعه من تجديد نفسه بنماذج إبداعيةٍ مختلفةٍ، على نحو يُقرّب الشعب الفلسطيني من تعزيز "وحدته الوطنية"، توطئةً لبلوغ أهدافه التحررية في آخر المطاف.