بخلاف ملفات عشرات الآلاف من السجناء التي سلّمتها القوات الأميركية إلى وزارة العدل العراقية منتصف يوليو/تموز 2010، ضمن تحضيرات انسحابها العسكري التدريجي من العراق آنذاك، يؤكد مسؤولون في بغداد، عدم امتلاكهم أي وثائق أو إفادات تتعلق بظروف أو أسباب وفاة الأمين العام السابق لـ"جبهة التحرير الفلسطينية"، محمد أبو العباس، داخل معتقل "كروبر" الأميركي بالقرب من مطار بغداد غربي العاصمة، في مثل هذا اليوم من عام 2004.
وتوفي أبو العباس في 8 مارس/آذار عام 2004 بعد فترة سجن دامت قرابة عام، عقب اعتقاله من قبل وحدة أميركية خاصة جنوبي بغداد، في 15 إبريل/نيسان 2003، بعد نحو أسبوع من الغزو الأميركي للعراق.
غياب الوثائق حول وفاة محمد أبو العباس
"صفر المعلومات"، هو ما يزيد من علامات الاستفهام التي تلف وفاة أبو العباس بعد 18 عاماً، داخل سجن "كروبر"، إذ يقول المسؤولون العراقيون إنهم لا يمتلكون أي وثائق أو تفاصيل عن الرجل ووفاته، على خلاف عشرات آلاف المعتقلين الذين ألقت القوات الأميركية القبض عليهم خلال سنوات احتلالها العراق بتهم مختلفة، وسلمت وثائقهم وملفاتهم لبغداد.
وتحتوي هذه الوثائق والملفات على صور وبصمات أصابع كل معتقل وحالته الصحية، ومحضر التحقيق الخاص به والإجابات التي قدمها خلال فترة احتجازه على التهم الموجهة إليه.
كما يتم وضع صور لشهادة الوفاة وتقرير الطب الشرعي لمن يتوفى من المعتقلين داخل السجون الأميركية، في حين أن كل ذلك لا يتوفر في حالة أبو العباس. علماً بأن حالات الوفاة بلغت ذروتها بين عامي 2004 و2005.
يقول المسؤولون العراقيون إنهم لا يمتلكون أي وثائق أو تفاصيل عن الرجل ووفاته
وعلى الرغم من حديث مسؤولين عسكريين أميركيين عن تولي خبير بالطب الشرعي في البحرية الأميركية التحقيق في سبب وفاة أبو العباس عقب تشريح جثمانه، وفقاً لما أوردته وكالة "فرانس برس" نقلاً عن مسؤول أميركي في 10 مارس عام 2004، إلا أن أي تقرير بشأن ذلك لم يصدر عن الجانب الأميركي لغاية الآن، باستثناء شهادة وفاة أرسلت لأسرة أبو العباس عبر الصليب الأحمر العامل في العراق، وتفيد بوفاته جراء سكتة قلبية.
وخلال محاولة تتبع ما يتوفر لدى الجانب العراقي من معلومات بشأن الملف، يؤكد مسؤول رفيع في بغداد، لـ"العربي الجديد"، بأن "وزارتي العدل والداخلية أحرزتا خلال السنوات الأخيرة، خطوات كبيرة بمشروع الأرشفة الالكترونية، ولا سيما في ما يتعلق بفترة الاحتلال الأميركي، بهدف وضع قاعدة بيانات ذكية تبدأ منذ عام 2003".
ويوضح المسؤول أن "هذه القاعدة تعتمد على سجلات القوات الأميركية ومحاضر التحقيق في معتقلات أبو غريب والمطار (كروبر) وسوسة وبوكا، ومراكز احتجاز أخرى في مناطق عدة من العراق آنذاك".
لكن المسؤول نفسه يؤكد أن ملف الفلسطيني محمد زيدان، المعروف بأبو العباس، الذي توفي عن عمر 55 عاماً، غير متوفر لديهم "حتى نجيب عن أي سؤال يتعلق باعتقاله أو الأشهر التي مكث خلالها في السجن".
ويشير إلى أن الملفات الموجودة لديهم حالياً، هي نسخ طبق الأصل، في حين أن المعلومات والوثائق الأصلية الكاملة هي بحوزة الأميركيين، بمعنى أن الأميركيين أنشأوا نسخاً وسلموها للسلطات العراقية.
من جهته، يؤكد محمد الجبوري، المستشار الأمني الأسبق في وزارة الداخلية العراقية بين عامي 2004 و2005، أن "المعسكرات والمعتقلات الأميركية بالمجمل لم تكن تحت سيطرة العراقيين، والمترجم العامل مع الجيش الأميركي، كان يملك سلطة ونفوذاً أكبر من الضابط في الجيش العراقي في تلك الفترة".
ويتابع في حديث مع "العربي الجديد": "لا يمكن القول إن أبو العباس تعرض لمعاملة سيئة في سجن كروبر، كون جميع المعتقلين هناك كانوا يتعرضون لتعامل غير آدمي من قبل الأميركيين، سواء في ما يتعلق بالعلاج والتغذية أو ظروف الاحتجاز، لكن بطبيعة الحال الأميركيون يعلمون من هو أبو العباس، وإلا لما كانوا اعتقلوه بعملية خاصة وأودعوه السجن نفسه الذي كان مخصصاً لقادة النظام السابق ورموزه".
ويختم الجبوري بالقول إنه "بحكم ارتباط الجالية الفلسطينية في العراق ككل، بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فيجب أن تُسأل هذه الأخيرة والصليب الأحمر عن الملف، كون العراق كان تحت سلطة الاحتلال آنذاك".
لم يصدر أي تقرير عن الجانب الأميركي بشأن وفاة أبو العباس لغاية الآن
شهادة وفاة شكلية لمحمد أبو العباس
لكن ع. غ. وهو فلسطيني يقيم في بغداد، في العقد الخامس من العمر، وعمل مرافقا لأبي العباس لمدة 10 سنوات، يشير في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إلى أن "الأميركيين لم يستجيبوا لطلبات التحقيق بشأن وفاة أبو العباس أو فحص جثمانه"، مضيفاً أن "شهادة الوفاة التي استخرجت له كانت شكلية".
ويتابع: "إن كان توفي بالسم أو بمنع الأدوية عنه، فالنتيجة واحدة". وينفي المتحدث نفسه صحة معلومات سابقة بشأن وضع أبو العباس في سجن انفرادي طيلة مدة حبسه، مؤكداً أن هناك من زاره في السجن وكان معه سجناء في زنزانة واحدة.
معاناة محمد أبو العباس من مشاكل في القلب
من جهته، يقول أول وزير للداخلية في العراق بعد الغزو الأميركي، نوري البدران، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "القوات الأميركية اقترفت جرائم كثيرة بحق العراقيين، لكن لم يصلني تقرير بأن وفاة أبو العباس كانت بسبب العنف الجسدي أو أنها ناتجة عن عملية قتل، وأنا هنا لا أثبت ولا أنفي شبهة القتل، غير أن الرجل كان يعاني من مشاكل في القلب".
ويلفت إلى أن "من يمتلك معلومات بشأن هذا الملف هو حسين كمال، وكيل وزارة الداخلية العراقية آنذاك، إذ كان ضمن لجنة تنسيق أميركية عراقية مشتركة في هذا السياق، لكنه توفي قبل مدة".
يذكر أنه بعد الإعلان الرسمي عن وفاة أبو العباس، اتهمت "جبهة التحرير الفلسطينية"، الولايات المتحدة بتصفية أمينها العام، إذ حمّل عضو المكتب السياسي في الجبهة وممثلها في لبنان، ناظم يوسف، "قوات الاحتلال الأميركي مسؤولية اغتيال أبو العباس".
وقال في تصريحات سابقة، إن القوات الأميركية "توقفت عن إعطاء أبو العباس أدويته في مركز الاعتقال قبل عشرة أيام من وفاته، بينما كان يعاني من مشاكل في القلب ومن ضغط الدم".
الأميركيون لم يستجيبوا لطلبات التحقيق بشأن وفاة أبو العباس أو فحص جثمانه
من جانبها، تقول ريم رفعت النمر، زوجة الراحل أبو العباس، إن "الزمن يغيّب الأشياء"، مضيفةً "الأوراق الرسمية التي تسلمناها من الجيش الأميركي عبر الصليب الأحمر، والتي تتضمن شهادة وفاة مختومة من جنرال أميركي برتبة كولونيل، تشير إلى أن سبب الوفاة سكتة قلبية".
وتضيف النمر في حديث مع "العربي الجديد"، "التقيت بعدها بسبع أو ثماني سنوات بعراقي كان معتقلاً مع زوجي في الزنزانة نفسها، وسألته عن الذي حدث مع أبو العباس، وقال لي إنه أصيب بنوبة اختناق وبدأ يضرب على الباب ليفتحوا له، وجاء رجلان وأخذاه وخرج مشياً، لكنه وقع على الأرض بعد ذلك".
وتتابع "كان يعاني من مشاكل في القلب، ولكن هل امتنعوا عن إعطائه الأدوية في الوقت الصحيح، أم أن الأدوية التي كانوا يقدمونها له غير مناسبة، أو دسوا له سماً بطيئاً؟ هذه التفاصيل تحتاج لتحقيق مع الأشخاص المسؤولين عن السجن. تلك الحقبة سقط فيها الكثير من الضحايا".