منذ فتح أول تحقيق قضائي بحق رفعت الأسد، عم رئيس النظام السوري الحالي بشار الأسد، وشقيق رئيس النظام السابق حافظ الأسد، في فرنسا في العام 2014، ينظر السوريون إلى محاكمته على أنها لا يمكن أن تأتي بالعدالة الحقيقية لمن كانوا ضحية بطشه؛ سواء من القتلى أو المعتقلين أو المفقودين أو المنفيين والمغيبين قسراً إلى اليوم. إذ إنّ الدعاوى المقدمة بحق رفعت الأسد والمحاكمة التي يخضع لها في فرنسا، تتعلق بقضايا اختلاس أموال الدولة السورية وتكوين إمبراطورية مالية بقيمة 90 مليون يورو عن طريق الاحتيال، في حين سيكون مصير هذه الأموال، في حال إدانته، من نصيب الخزينة الفرنسية بنسبة كبيرة، من دون تحقيق العدالة للسوريين حتى في هذا الجانب، بإعادة الأموال إليهم، والاحتفاظ بها لحين استقرار البلاد التي تطحنها الحرب منذ عشرة أعوام.
وبدأت أول من أمس الأربعاء مجدداً محاكمة رفعت الأسد أمام محكمة استئناف باريس، في غياب المتهم البالغ من العمر 83 عاماً لأسباب صحية. ويتهم رفعت الأسد بتكوين أصول عقارية في فرنسا بقيمة 90 مليون يورو عن طريق الاحتيال، وهو ما ينفيه. وكان القضاء الفرنسي حكم في 17 يونيو/حزيران من العام الماضي، على الشقيق الأصغر لحافظ الأسد، بالسجن أربع سنوات، بعد إدانته بتبييض أموال بشراء عقارات في فرنسا بملايين اليوروهات، باستخدام أموال عامة محوّلة من سورية. كما أمرت المحكمة بمصادرة العقارات المعنية، إلا أنّ رفعت الأسد قدم طعناً بالقرار فور صدوره.
يتهم رفعت الأسد في فرنسا باختلاس أموال الدولة السورية وتكوين إمبراطورية مالية عن طريق الاحتيال
ومنذ العام 2014، موعد فتح تحقيق قضائي في فرنسا بحق رفعت الأسد، المتهم بغسل أموال واحتيال ضريبي واختلاس أموال سورية عامة بين عامي 1984 و2016، صدرت قرارات بمصادرة ما لا يقل عن منزلين ضخمين يعودان له في حيّين راقيين في باريس، ومزرعة خيول، ونحو 40 شقة، وقصر في فال دواز بضواحي باريس، بالإضافة إلى مكاتب في ليون تديرها شركات في لوكسمبورغ.
وينظر السوريون المتضررون من بطش رفعت الأسد لتسليط الضوء في القضاء الفرنسي وغيره على مسألة اختلاس الأموال وغسلها وغيرها من القضايا التي يخضع للمحاكمة بشأنها في فرنسا، على أنها ليست أكثر من تغطية على جرائمه الأساسية بحق الأرواح. فالهابط مع شقيقه من القرداحة بأعالي جبال العلويين في اللاذقية، أصبح الحاكم الثاني لسورية، ولا سيما في فترات مرض شقيقه حافظ منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، والتي أغرته طول إحداها لأن يتخذ قراراً بتنحية حافظ والانقلاب عليه عام 1984. ففي 13 إبريل/نيسان من ذلك العام، تحركت قوات "سرايا الدفاع" مع دباباتها لتطويق مبان ومنشآت عسكرية حساسة للنظام داخل العاصمة دمشق، إلا أنّ ذلك تزامن مع صحوة الشقيق الأكبر من غيبوبته المرضية، محاولاً الدفاع عن حكمه، فكانت ناعسة شاليش، والدة الإثنين، الحكم والقاضي بينهما. حكم الأم قضى بأنّ "السلطة لحافظ والمال لرفعت"، وتلك رواية يتناقلها السوريون منذ ذلك الوقت. وبهذا الحكم، انتهت محاولة رفعت الانقلابية.
لكن رفعت الذي قُضي له بالمال، طلب مبلغاً مالياً كبيراً بالعملات الصعبة، لم تكن أرصدة البنك المركزي تكفي لسداده، ما جعل حافظ يلجأ إلى العقيد الليبي معمر القذافي لإكمال ذلك المبلغ، الذي قبضه رفعت وخرج إلى روسيا في بادئ الأمر، ومنها إلى فرنسا في وقت لاحق. ويشير اقتصاديون سوريون إلى تلك الحادثة (إفراغ البنك المركزي لصالح رفعت)، على أنها نقطة فارقة في مسيرة الليرة السورية نحو الأسوأ إلى يومنا هذا.
خرج رفعت وفي جعبته رصيد كبير من المال، ورصيد أكبر من المجازر بحق السوريين، الذين صفّى أبناءهم المعتقلين في سجن تدمر، خلال مجزرة السجن الشهيرة عام 1980 والتي تلت محاولة اغتيال حافظ الأسد، ومن ثم ارتكابه للمجزرة الأفظع في حماة أثناء قمع النظام لانتفاضة "الإخوان المسلمين" في فبراير/شباط من عام 1982، فدمرت قوات رفعت أكثر من نصف المدينة، وقتلت حوالي 30 ألفاً من سكانها.
ينظر السوريون المتضررون من بطش رفعت الأسد لمحاكمته بقضايا مالية، على أنها ليست أكثر من تغطية على جرائمه الأساسية
ولا ينسى السوريون كيف انقضت متخرجات من دورة المظليات لعام 1981، التي كانت تخرجها "سرايا الدفاع" بإشراف مباشر من قبل رفعت الأسد، على نسوة في أسواق دمشق محاولة نزع أحجبتهن، ما اضطر حافظ الأسد حينها للخروج في اليوم التالي، وتقديم ما يشبه الاعتذار عن هذا التصرف خوفاً من غضب السوريين.
حاول رفعت أكثر من مرة العودة إلى سورية؛ سواء عن طريق التوسط لدى شقيقه حافظ قبل موته، أو من خلال دعم مجموعات أثارت قلاقل للتمهيد لعودته، ولا سيما خلال أحداث عام 1999 التي شهدتها محافظة اللاذقية وقمعها حافظ، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل. ومع اندلاع الثورة في ربيع عام 2011، حاول استغلالها لصالحه بتقديم نفسه كمعارض للنظام، بعد محاولاته إبعاد التهم عنه بالجرائم التي ارتكبها، والقفز إلى واجهة المشهد السياسي للثورة، لكن المنتفضين صوبوا في تظاهراتهم على جرائمه، ما جعله يستكين لمواصلة تكديس ثروته مع أبنائه في فرنسا، بناء على ما نهبه من السوريين. ذلك الثراء غير المبرر، و"الكسب غير المشروع"، كان من شأنه إخضاع رفعت الأسد للمحاكمة أمام القضاء الفرنسي، ما أدى لمحاكمته بناء على التهم المذكورة أعلاه، وهي التهم التي وجهت له في دول أوروبية أخرى، منها سويسرا وإسبانيا، إذ كان رفعت الأسد يملك في الأخيرة عقارات تقدّر قيمتها بحوالي 700 مليون يورو، قبل أن تصدر السلطات الإسبانية قراراً بمصادرتها عام 2017 بعدما وجهت إليه تهماً مختلفة، في مقدمتها غسل الأموال.
ترجيح بأن تذهب الأموال الممكن مصادرتها للخزينة العامة في فرنسا
وحول تركيز القضاء الأوروبي والفرنسي تحديداً، على مسألة أموال رفعت الأسد، من دون التحقيق في جرائمه، قال الباحث والحقوقي السوري، رضوان زيادة، إنّ "الادعاء العام غالباً ما يركز على الاتهامات التي يشعر بأنه يمتلك وثائق وأدلة كافية للإدانة بشأنها". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد": "هذا لا يعني تبرئة رفعت الأسد من التهم الأخرى، وإنما ليس هناك أدلة كافية بشأنها". وتابع: "انتهاكات حقوق الإنسان عموماً، ومجازر حماة المتهم بارتكابها رفعت الأسد على وجه التحديد، تحتاج إلى الكثير من الشهود والأدلة، التي ربما لا يمتلكها الادعاء العام الآن". أما بالنسبة للأموال الممكن مصادرتها واستردادها من رفعت الأسد من قبل القضاء الفرنسي، فأشار زيادة إلى أنّ "مصير هذه الأموال يحدده القانون والقضاء، لكن أعتقد أنها تذهب للخزينة العامة في فرنسا في مثل حالة محاكمة رفعت الأسد".