منذ البداية كانت بيد الرئيس الأميركي جو بايدن ورقتان من العيار الكبير؛ لقاح كورونا الذي كان جاهزاً للاستعمال مع دخوله البيت الأبيض، والسياسة الخارجية، وزاد من أهميتهما له أنّ سلفه دونالد ترامب تعامل مع الاثنتين بخفة أو بمزاجية أثارت عدم ارتياح واسع، شمل حتى بعض الجمهوريين في الكونغرس. وبذلك كانت الساحة جاهزة للرئيس بايدن ليظهر على نقيض الإدارة السابقة في هذين المجالين المهمين، وبما يوفر له انطلاقة صاعدة لرئاسته.
وبالفعل، حقق بايدن نجاحاً ملحوظاً في الأشهر الثلاثة الأولى، ووصل رصيده في أواخر إبريل/نيسان إلى 60%. على صعيد كورونا؛ وعد بتطعيم مائة مليون مع نهاية إبريل/نيسان فانتهى بأكثر من مائتي مليون مع شهر مايو/أيار. وبالتوازي، ألغى العديد من قرارات الرئيس ترامب الخارجية، وخاصة المتعلقة بالاتفاقيات والحلفاء والمنظمات الدولية.
لكن البداية الصاعدة شجعته كما يبدو، على التسرّع، الذي له فيه باع طويل منذ أن كان في مجلس الشيوخ.
على صعيد كورونا، سارع الرئيس بين أواخر مايو/أيار وبداية يونيو/حزيران الماضيين إلى زفّ بشرى بداية العودة المرجحة إلى الوضع الطبيعي في مطلع يوليو/تموز، حيث توقع أن يكون 70% من الأميركيين قد أخذوا اللقاح، مع أنّ خطر انتشار متحور جديد للفيروس كان قائماً. إذ جاء الموعد على عكس توقعاته. الإقبال على التطعيم تراجع، وموجة "دلتا" اكتسحت المناطق الأميركية المعادية للتطعيم.
وخلال أغسطس/آب، وعد بايدن، خلافاً لتوصيات المراجع الطبية الرسمية بعدم الاستعجال بجرعة ثالثة للقاح لمواجهة هجمة "دلتا"، لكن الجهات المعنية لم تعطِ الموافقة حتى الآن، وجاءت موافقتها جزئية ومشروطة، على أن يجري البت بأمرها نهائياً اليوم الخميس، وبصورة محصورة بلقاح "فايزر" فقط، ولشرائح معينة من الأميركيين (فوق 65 سنة، وأصحاب الحالات المرضية الخطرة، والعاملين في قطاعات حساسة كالصحة والتعليم وغيرها).
وجدد هذا الوعد الشكوك، وزاد من الحيرة التي سترتد مرة أخرى على الرئيس ووعوده "الكورونية" المستعجلة، التي بدت وكأنها مسيسة بغرض الانتفاع من مردوداتها السياسية، في وقت هبط فيه رصيده إلى حوالي 43% أو أقل.
وقد عزّز مثل هذا التخبط من الاعتقاد بوجود فقر في تقديرات الإدارة الأميركية وحساباتها، وبالتالي في صدقيتها.
على الصعيد الخارجي، لم تكن الصورة أفضل، بل أتعس. وبالتحديد على جبهتي أفغانستان وصفقة الغواصات. في الحالتين انكشف سوء التقدير والتدبير بصورة فاضحة. فوضى الهرولة في عملية الجلاء من مطار كابول، لن تقوى الإدارة على محو لطختها. وقبل أن تبدأ سيرتها بالتراجع من واجهة المداولات، من دون أن تغيب عنها؛ وقع البيت الأبيض في إحراج كبير آخر مع حليف مهم، بعد أن كان قد أخذ على نفسه تصحيح العلاقات مع الحلفاء، التي "خرّبها" الرئيس ترامب.
خطْفُ صفقة الغواصات النووية الأسترالية من فرنسا، ضرب الرقم القياسي في "بيع" الحليف، وبصورة لا يمكن تصوّر محوها من ذهن باقي الحلفاء. الإخراج "غير اللائق ولا الجائز" أثار الاستياء ولو المكتوم، لدى كثيرين من مجتمع السياسة الخارجية، ومنهم ليسوا من خصومه.
والثلاثاء، وبعد أن ألقى بايدن خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عاد على الفور إلى واشنطن، خلافاً للعادة. ليس فقط تحوّطاً من كورونا؛ بل أيضاً ابتعاداً عن جو دولي "غير ودي"، بعد الذي حدث في أفغانستان وصفقة الغواصات، حيث آثر بايدن عقد اللقاءات الدولية التي كانت على جدول زيارته للأمم المتحدة؛ عن بعد، في البيت الأبيض.
كل هذا انعكس بصورة سلبية على وضع بايدن وعلاقاته مع الكونغرس، الذي يهدد بنسف أجندته الداخلية التي باتت رئاسته مرهونة بها. الجمهوري استقوى بتعثّر بايدن على جبهتي كورونا والسياسة الخارجية، وتراجع صورته وتأييده، ليقف صفاً واحداً ضد مشاريعه. والأسوأ أنه حتى حزبه الديمقراطي في مجلسي النواب والشيوخ، انشق حول أهم بند في الأجندة، البنية التحتية بشقيها، والتي تشكل العمود الفقري لها. إن انشغاله بالإخفاقات الخارجية، والتخبط بمواجهة الفيروس، أدى إلى ترك الخلافات بين الديمقراطيين تتفاقم، إلى أن تدخل، أمس الأربعاء، قبل استحقاق البت بحزمة مشاريعه بأسبوع، والمترافق مع استحقاقين رئيسين آخرين؛ تمويل الكونغرس للحكومة الفدرالية قبل نهاية الشهر الجاري، والموافقة على رفع سقف ديونها العامة لتمكينها من الاقتراض لتسيير ماكينة الدولة.
عصر أمس استدعى بايدن طرفي النزاع من الديمقراطيين إلى البيت الأبيض كل على حدة، من غير أن يقوى سوى على نيل تعهّد منهما بمحاولة العثور على تسوية وسط تنقذ الرئيس وحزبه، الذي لا يملك سوى أغلبية صوت واحد في مجلس الشيوخ، وأربعة أصوات في مجلس النواب. ويبدو من الإشارات التي سرت بعد اللقاء أنّ بايدن لن يقوى على تمرير أجندته بالأرقام التي يريدها؛ حوالي 4.5 تريليونات دولار.
اهتزاز صورة رئاسة بايدن بعد ثمانية أشهر، ومن خلال خسارة أهم ورقتين كان من المفترض أن تكوّنا رأسماله الكبير؛ يهدد بانقلاب الأكثرية ضده في مجلس النواب السنة المقبلة.. وربما في مجلس الشيوخ في غياب الاستدراك والتصحيح.