خلقت هبّة كل فلسطين في الشهر الممتد من منتصف نيسان/ إبريل إلى منتصف أيار/ مايو واقعا، بل وقائع جديدة في الأراضي المحتلة تقتضي الضرورة قراءتها بتمعّن وعمق واستخلاص العِبر المناسبة. وفي الجوهر منها المضي قدماً في خيار المقاومة الشعبية الذي كان العنوان العريض للهبّة، وكي لا تبقى هذه يتيمة ومن أجل استثمارها كما ينبغي، خاصة مع التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني ولا يزال لا بد من تشكيل قيادة وطنية موحدة للشعب الفلسطيني، والتوافق على برنامج سياسي يستلهم من هبّة المقاومة الشعبية التي تجاوزت كل الحدود والتقسيمات السياسية والجغرافية وتحديداً ما بعد اتفاق أوسلو، كما تجاوزت في السياق أيضاً استلاب القيادة الهرمة والمنفصلة عن الشارع وقواه الحية لحل الدولتين الفاشل والميّت سريرياً في فلسطين المحتلة.
قالت دراسة أصدرها مجلس الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب الخميس 17 مايو أن هبّة كل فلسطين كسرت كل الوقائع التي فرضها الاحتلال خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا فيما يتعلق بتقسيم الشعب الفلسطيني إلى مجموعات سكانية مختلفة - في القدس والضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 1948 حسب توصيف الدراسة - وخلصت إلى ضرورة قراءة ذلك جيداً من قبل القيادة الإسرائيلية لطرح آراء وأفكار مغايرة في حالة العودة إلى عملية التسوية والمفاوضات مع السلطة الفلسطينية.
الأمر نفسه مطلوب وحتى أكثر إلحاحاً لدى الجانب الفلسطيني، ما يقتضي بالضرورة أداء فكري وسياسي مختلف من قبل الساحة السياسية برمتها يقطع بالتأكيد مع النهج السابق على هبّة كل فلسطين.
بتفصيل أكثر استندت الهبّة أساساً إلى خيار ونهج المقاومة الشعبية في القدس والضفة الغربية وحتى في الأراضي المحتلة 1948، ورغم معركة سيف القدس العسكرية التي أطلقتها المقاومة من غزة تضامناً مع الهبّة، والتي كرّست وعمّقت دلالات الهبّة وكانت جزءاً جوهرياً منها إلا أن قائدها الميداني يحيى السنوار نفسه قال الاثنين 21 حزيران/ يونيو إن رفع الحصار عن غزة وتحسين الأوضاع الإنسانية فيها يقتضي بالضرورة اتباع خيار المقاومة الشعبية، بعدما لم تحقق المعركة العسكرية ذلك، وبمعنى آخر بدا وكأنه يقول إن ما لم يتحقق بالصواريخ قد يكون بالإمكان تحقيقه بالإرباك الليلي والبالونات الحارقة، وهي الفعاليات التي تلامس بالتأكيد تخوم المقاومة الشعبية السلمية.
المضي قدماً في المقاومة الشعبية باعتبارها الخلاصة الأهم، بل القاعدة لهبّة كل فلسطين يستلزم بالضرورة تشكيل قيادة فلسطينية جديدة شابة منتخبة خالية من الاستبداد والفساد تستلهم روح وجوهر والهبّة، وهذا لا يتم حصراً إلا عبر انتخابات حرة وشفافة ونزيهة للشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة إذا أمكن أو حتى في الداخل فقط، أي غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس طبعاً لانتخاب مجلس تشريعي جديد يتولى تشكيل حكومة توافق لإدارة مناحي الحياة المختلفة للفلسطينيين في الداخل، وأعضاء المجلس هم أنفسهم كأعضاء بحكم القانون في المجلس الوطني - البرلمان الجامع - يأخذون على عاتقهم انتخاب لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير، تعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة وتتولى استراتيجياً إدارة الصراع مع الاحتلال.
وفيما يخص المنظمة لا بد من التأكيد على أنها مثّلت، ولا تزال، الوطن المعنوي للفلسطينيين خاصة في الشتات، والأزمة ليست مع المنظمة بحد ذاتها إنما مع قيادتها - لجنتها التنفيذية - الهرمة المترهلة المستبدة الفاسدة التي تختطف المنظمة بشكل غير وطني أو ديمقراطي.
القيادة الشابة المنتخبة الديمقراطية لا بد وأن تأخذ على عاتقها بلورة برنامج سياسي يكرس وحدة الشعب الفلسطيني خارج تقسيمات الاحتلال وأوسلو، ما يعني بالضرورة تجاهل حلّ الدولتين الذي تجاوزته الهبّة الشعبية مع تأكيد رواية قتل الدولة العبرية للحل الميّت سريرياً عن سبق إصرار، بينما الخيار العادل الواقعي والممكن يتمثل بالدولة الديمقراطية الواحدة، بما في ذلك تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين – بأجيالهم المختلفة - إلى القرى والمدن التي هجروا منها في العام 1948.
ضمن الوقائع التي خلقتها الهبّة ثمة واقع مشابة لذلك الذي نشأ بعد نكبة حزيران/ يونيو 1967 ثم معركة الكرامة بعدها بعام تقريباً أي في مارس/ آذار 1968، كون نكبات أوسلو والاقتتال والانقسام تشبه في جوهرها نكبة 67 وهي بشكل ما منبثقة عنها، لأن حلّ الدولتين البائس نفسه بدأ هناك حيث غير الفاشلون القضية من كل فلسطين إلى حدود حزيران/ يونيو - 22 بالمائة منها - بدلاً من أن يتغيروا ويرحلوا عن السلطة التي وصلوا إليها بالإكراه والقوة الجبرية بحجة إزالة آثار النكبة الأولى في العام 1948.
أما هبّة كل فلسطين، بما فيها معركة سيف القدس، فتشبه معركة الكرامة التي أكدت قدرة الفلسطينيين والعرب على التوحّد والانتصار، وأن إسرائيل ليست دولة أسطورية وإنما هشّة منقسمة قابلة للهزيمة بل محكومة بها في الحقيقة.
هذه الزاوية تحديداً تؤكد من جهة أخرى صحة الخلاصة القائلة بضرورة بل حتمية رحيل القيادة الفلسطينية الحالية بعد الهبّة التي أثبتت أنها منفصمة ومنفصلة عن الواقع الفلسطيني في رام الله - وحتى في بيتا المجاورة - والقدس وعموم فلسطين، القيادة غير المنتخبة لا تملك الشجاعة والقدرة على طرح حلّ جديد، وتتشبث بحل الدولتين الميت سريرياً كونه يكفل تعويمها ويعطيها الشرعية أمام أمريكا والمجتمع الدولي، أي أنها تقدم مصلحتها الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية الواسعة. وهي عاجزة بالتأكيد عن خوض نضال مصمم عنيد ومتعدد المستويات من رفح إلى بيتا ويافا وأم الفحم، وفي القلب القدس طبعاً كما أماكن وتجمعات اللاجئين في الخارج.
ثمة معطى أخير مهم جداً مفاده أن هبّة كل فلسطين تتماثل مع روح الثورات العربية الأصيلة، وميدان التحرير المتنقل من دولة عربية إلى أخرى الذي استلهم هو نفسه من الانتفاضة الشعبية الأولى وأبطالها أطفال الحجارة، كما قال أحد رموزها الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي ذات مرة، الثورات التي سعى الطغاة لإجهاضها وحرفها عن مسارها عبر صبغها بالدم لأجل بقائهم في السلطة، ما يعني من جهة أخرى بقاء إسرائيل والقضية الفلسطينية دون حلّ عادل وشامل وواقعي، وببساطة واختصار لا شك أبداً في حقيقة أن النضال واحد في ميدان الثورة المتنقل من أجل هزيمة الطغاة والغزاة، وبالتالي تحرير فلسطين كل فلسطين.