أظهرت نتائج الانتخابات المحلية المزدوجة، البلدية والولائية، التي جرت في الجزائر، أول من أمس السبت، استمرار مقاطعة ثلثي الناخبين لصناديق الاقتراع منذ الحراك الشعبي، الذي كان اندلع في فبراير/شباط 2019. ولم يتحرك مؤشر التصويت صعوداً في هذه الانتخابات مقارنة بمستوى الاقتراع في الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة، التي جرت منذ الحراك الشعبي، وذلك على الرغم من طبيعة الانتخابات المحلية، وقرب المرشحين من الناخبين اجتماعياً.
ولم يذهب 14 مليون ناخب من مجموع 23 مليوناً إلى صناديق الاقتراع، ليتوقف مؤشر التصويت في الانتخابات البلدية عند حدود 35.97 في المائة، بحسب ما أعلن عنه رئيس السلطة المستقلة للانتخابات في الجزائر محمد شرفي في إيجاز صحافي ليل السبت الأحد. ومثلها كانت نسبة التصويت في انتخابات المجالس الولائية، حيث بلغت عند إغلاق صناديق الاقتراع 34.39 في المائة. واعتبر شرفي أن التقدم النسبي الوحيد الذي سجله مؤشر التصويت جرى في ولايات منطقة القبائل، التي انتقلت من مستويات تصويت دنيا، بواحد إلى أربعة في المائة خلال الانتخابات النيابية في يونيو/حزيران الماضي، إلى 18 في المائة في بجاية، و20 في المائة في تيزي وزو، و27 في المائة بالبويرة.
التقدم النسبي الوحيد الذي سجله مؤشر التصويت حدث في منطقة القبائل
وعلى الرغم من أن نسبة التصويت الوطنية، أول من أمس، أعلى من نسبة التصويت في الانتخابات النيابية التي جرت في يونيو الماضي، والتي كانت 30 في المائة، فإنها تبدو مخيبة لتطلعات السلطة السياسية ولآمال الكثير من القوى السياسية، وتوقعات مراقبين كانوا يعتقدون أن جملة عوامل ستساعد في دفع الناخبين إلى التصويت. ومن ضمن هذه العوامل الطبيعة المحلية لهذه الانتخابات، كون المجالس البلدية أكثر ما يهم المواطن، وهي أكثر مؤسسات الحكم قرباً منه. يُضاف إلى ذلك تعدد المرشحين، ودخول العامل القبلي والعشائري في هذه الانتخابات، إضافة إلى عامل سياسي يتعلق بمشاركة حزب بارز، كجبهة القوى الاشتراكية المتمركز في منطقة القبائل، إذ كان يُعتقد أن مشاركة الحزب ستؤدي بناخبي المنطقة (تمثل سدس الهيئة الناخبة) إلى التصويت. ومن بين العوامل الإضافية مراجعة عدد من نشطاء الحراك الشعبي لموقفهم من الانتخابات وترشحهم فيها. وإلى جانب كل ذلك، وجود هيئة مستقلة للانتخابات حققت هامشاً مقبولاً من الاستقلالية عن الإدارة ووفرت المصداقية للعملية الانتخابية.
لكن مجموع هذه العوامل لم يكن كافياً، أو هكذا يبدو، لإقناع عدد أكبر من الناخبين بالتصويت في أكثر الانتخابات تعلقاً بشؤونهم اليومية مقارنة بأية انتخابات أخرى، إذ لم يخدم السياق الاجتماعي الذي جرت فيه الانتخابات المحلية هذا الاستحقاق. وعلى العكس تماماً، فإن تزامن الانتخابات مع موجة غلاء الأسعار وسلسلة أزمات تموين وندرة الأدوية البالغة الحساسية، كالأنسولين، وتعقّد الأوضاع المعيشية لغالبية الجزائريين، باعد نسبياً بينهم وبين صندوق الانتخابات الذي يبدو ضحية للأزمة الاجتماعية الخانقة. ويندرج في نفس السياق التوقيت الخطأ الذي طرحت فيه الحكومة خيار رفع الدعم عن أسعار المواد الواسعة الاستهلاك، وهو ما شكل حالة من القلق الشعبي، إذ أقرّ الرئيس عبد المجيد تبون، في حوار تلفزيوني، الجمعة الماضي، بالتوقيت الخاطئ لطرح هذا النقاش.
وإذا كان تدني نسبة التصويت جزء من تعبير واضح عن قلق اجتماعي من خيارات حارقة تتوجه إليها الحكومة، فإن التفسيرات السياسية تطرح قراءة أخرى لاستمرار عزوف ثلثي الجزائريين عن التصويت. ويؤكد المتحدث باسم حركة مجتمع السلم، كبرى الأحزاب الإسلامية والمعارضة في الجزائر، نصر الدين حمدادوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "العزوف الانتخابي الأخير يُظهر بوضوح بقاء أزمة ثقة الجزائريين في العملية السياسية والانتخابية، وهي عملية لا يزال المواطن ينظر إليها برتابة، وأن العملية السياسية لم تتوفر على نصاب القوة في التغيير".
ويلفت إلى وجود "خيبة أمل كبيرة عامة لدى الجزائريين بعد الحراك الشعبي. هناك انكسار في الأمل، وحالة إحباط، بعد التفاف واضح للسلطة على مطالب الحراك الشعبي، وهذا يجعل الكثير من الجزائريين لا يرون في الانتخابات وسيلة للتغيير والتداول السلمي على السلطة، بل مجرد عملية آلية لإعادة تركيز مؤسسات، بدون أن يمثل ذلك تغييراً جدياً وفقاً طموحات وتطلعات الجزائريين التي عبّروا عنها في تظاهرات الحراك".
ويلقي حمدادوش، كفاعل سياسي، بثقل مأزق التصويت الانتخابي على السلطة. ويبدو أن ما يطرحه مقنع للكثيرين، خصوصاً أنّ غالبية نشطاء الحراك الشعبي والقوى السياسية المعارضة يتفقون على المنحى ذاته، وهو ما ذهب إليه المتحدث باسم جبهة القوى الاشتراكية وليد زرابي، في تصريح سابق لـ"العربي الجديد". ويقول إن ممارسات السلطة، واستمرار مناخ قمع الحريات والتضييق على العمل السياسي والإعلام، وعجز سلطة الانتخابات عن الحد من تدخل الإدارة، والانحياز إلى أحزاب الموالاة، هي التي تكبح اندفاع الجزائريين إلى التصويت.
توفيق بوقاعدة: الأحزاب السياسية تتحمل جزءاً من المسؤولية
لكن تفسيرات أخرى تحمّل الأحزاب السياسية نفسها جزءاً من المسؤولية عن حالة القطيعة بين أغلبية الناخبين والصندوق، وترى أن فشل الأحزاب في الدفاع عن الحقوق، الاجتماعية والعمالية، ومستوى الخطاب السياسي وعشوائية الترشيحات لدى غالبيتها، سبب بارز للعزوف الانتخابي. وفي هذا السياق، يؤكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر توفيق بوقاعدة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "من المؤكد أن ضعف المشاركة لا تتحمله السلطة وحدها. حتى الأحزاب السياسية تتحمل جزءاً من المسؤولية بسبب بقائها بعيدة عن الفعل السياسي والتعاطي مع القضايا المتعددة التي عرفتها البلاد في الفترة الأخيرة. وفي تقديري فإن بقاء مؤشر المشاركة في الانتخابات المحلية البلدية والولائية في مستوياتها الدنيا، رغم أهمية هذه الانتخابات بسبب ملامسة المنتخبين لمشاكل وهموم المواطنين مباشرة، وتدخل العوامل العائلية والقبلية والمناطقية في تحديد خريطة المجالس المحلية، يعود بالأساس إلى المشهد السياسي العام المأزوم، على مستوى الخطاب والممارسة من جهة الأحزاب، التي ظلت تطرح شعارات ووعودا كانت قطعتها أيضاً خلال الانتخابات التشريعية، قبل أن تتنكر لها في البرلمان، من خلال قانون الموازنة الأخير، أو على مستوى هامش الحرية السياسية الضيق والمكبل بعدد من الإجراءات من جهة السلطة، التي تجاوزت أطر الممارسة السياسية المعهودة قبل الحراك الشعبي".