توالت ردود الفعل الرافضة لقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد المتعلق بحذف وزارة الحكم المحلي، وإلحاق صلاحياتها بوزارة الداخلية، بما في ذلك ما يتعلق بالبلديات المنتخبة. قرار أثار الكثير من الجدل والمخاوف، لأنه يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة، عندما كانت السلطة المركزية تشرف على الشؤون المحلية من خلال وزارة الداخلية التي أصبحت اليوم في يد رئيس الجمهورية. هذا يعني أن رئيس الدولة يتجه نحو إلغاء الفصل السابع من الدستور (الذي تطرّق للحكم المحلي) من دون الاستناد إلى أي نوع من أنواع الاستشارة والشراكة. فما هي دلالات هذه الخطوة؟ وما هي انعكاساتها الاستراتيجية في المستقبل؟
تطرّق الباب السابع من دستور 2014 إلى السلطة المحلية، واعتبرها سلطة تقوم على اللامركزية التي تتكون من بلديات وجهات وأقاليم. وتتمتع الجماعات المحلية بـ"الاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفق التدبير الحر"، عبر مجالس منتخبة "انتخاباً عاماً، حراً، مباشراً، سرياً، نزيهاً وشفافاً".
يسعى سعيّد لإقصاء الأحزاب من البلديات كما أقصاها من البرلمان
لقد اعتُبر هذا الباب من الانجازات الثورية التي فتحت المجال أمام تغيير جوهري في النظام السياسي الذي كان يدير البلد بطريقة مركزية مفرطة للغاية. لهذا، رحبت الدول الديمقراطية بهذا المنعرج في الشأن العام التونسي. ولأنها مدركة لصعوبة الانتقال من نظام مركزي إلى آخر لا مركزي، قرر العديد من هذه الدول، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، تقديم مختلف أشكال الدعم بما في ذلك الدعم المالي، من أجل إنجاح هذه التجربة. وكان من الطبيعي أن تتعثر هذه التجربة في البداية بسبب عوامل عديدة، لكن الذين ساعدوا المحاولة كانوا يدركون بأنها ليست هينة، وأنها ستتعرض لصعوبات وعوائق عديدة، لكن عليها أن تصمد، لأن تداعياتها الإيجابية أكثر بكثير من جوانبها السلبية. على هذا الأساس، تم تقديم مساعدات ضخمة للحكومات السابقة وأيضاً لمنظمات المجتمع المدني من أجل توفير الظروف الملائمة لنجاح هذه التجربة.
يبدو أن سعيّد غير مقتنع بفكرة السلطة المحلية واستقلالها عن السلطة المركزية، أو على الأقل ينظر إليها من زاوية مختلفة. ولعله ينطلق من التعثر الواضح للبلديات التي أصبحت مجالسها منتخبة، لكن العديد منها وقعت في فخ الأحزاب، وهو ما جعل بعضها يفشل، مما دفعها نحو الاستقالة نتيجة الصراعات التي حصلت بين مكوناتها الحزبية، أو بسبب ضعف الخبرة لدى رؤسائها. بناء عليه، يسعى الرئيس سعيّد نحو إقصاء الأحزاب من البلديات كما أقصاها من البرلمان. في المقابل، يعمل على تغيير النظام السياسي بنظام بديل يقوم على فكرة المجالس المحلية التي سيتم انتخابها على أساس انتخاب الأفراد وليس القوائم الحزبية، لتصبح هذه المجالس مصدر القرار والتشريع عن طريق رفع المطالب المحلية إلى المجالس الجهوية التي بدورها تحولها بعد المناقشة إلى المجلس الوطني أو البرلمان. بهذه الطريقة، تصبح البلديات ملغاة أو على الأقل تفقد قيمتها الحالية، وتتحول إلى هيئات مساعدة على تنفيذ مسائل جزئية.
وأثار قرار إلغاء وزارة الشؤون المحلية وإلحاق صلاحياتها بوزارة الداخلية، قلق المجتمع المدني والأحزاب السياسية. إذ اعتبرته حركة النهضة في بيان لها أخيراً "قراراً خطيراً"، مضيفةً أن الرئيس بهذا القرار قام "بمصادرة للباب السابع من الدستور الذي حقّق أحد أهداف ثورة الحرية والكرامة، فكان قرار إلغاء الوزارة نكوصاً إلى صور المركزية الشديدة للسلطة والاستبداد".
أما رئيس الجامعة الوطنية للبلديات، عدنان بوعصيدة، فاعتبر أن مسار اللامركزية في تونس انطلق فعلياً منذ سنة 2018، في حين أن التجارب الأوروبية انطلقت منذ 1970، وبناء عليه "تونس ما زالت في فترة تأسيسية، ويجب دعم هذا المسار مادياً وعبر الاستقرار في المجالس البلدية، وهذا ما لا يتوفر في تونس"، معتبراً أنه "تم التنصل من دعم مسار اللامركزية". وأضاف "الإشكال ليس في إلحاق هياكل الشؤون المحلية بوزارة الداخلية، بل في إلغاء مسار اللامركزية وخسارة المكسب".
تعتبر منظمات المجتمع المدني المتضرر الأكبر من قرار سعيّد
وتعتبر منظمات المجتمع المدني المتضرر الأكبر من قرار سعيّد، بحكم أن هذا القرار يعيد للداخلية سلطة نُزعت منها بعد الثورة، لهذا تساءلت العديد من الجمعيات، من بينها المنتدى الاقتصادي والاجتماعي، في بيان مشترك حول "ما إذا كانت هذه الخطوة تمهد لقبر مسار اللامركزية وعدم دفعه إلى التقدم من خلال استكمال مختلف مكوناته". واعتبرت في البيان نفسه أن اللامركزية "مثلت وما زالت تمثّل فرصة لتحقيق التنمية العادلة بين مختلف الجهات، وهي إطار لممارسة الديمقراطية التشاركية بشكل فعلي"، مبينةً أن "تقييم المسار يجب أن يكون بصفة موضوعية من خلال تحليل كافة نقاط قوته وضعفه، ومدى مساهمة كل طرف في إنجاحه".
هكذا، تتعدد الأسباب والمؤشرات التي جعلت جهات كثيرة تطرح أسئلة حول مستقبل الديمقراطية التونسية. آخر هذه الجهات منظمة "International IDEA" ومقرها في استوكهولم، والتي صنفت تونس في تقريرها حول واقع الديمقراطيات لسنة 2021 ضمن الديمقراطيات الهشة، في وقت "تشهد فيه مؤشرات الديمقراطية على المستوى العالمي تراجعاً منذ سنة 2016"، وفق هذا التقرير الذي تعده المنظمة سنوياً.
كما أشارت المنظمة إلى أن المسار الديمقراطي في تونس "التي تعتبر التجربة الوحيدة الناجحة في ما عُرف بالربيع العربي، شهد اضطرابات مع عزل الرئيس قيس سعيّد لرئيس الحكومة (هشام المشيشي) وتعليق عمل البرلمان في الخامس والعشرين من يوليو/تموز الماضي".