قضية ريجيني: مصر تراهن على سيناريو المؤامرة لحماية متهميها

01 يناير 2021
تتهم روما أربعة ضباط بالوقوف وراء قتل ريجيني (فرانسيسكو ميرتو/Getty)
+ الخط -

لم تطرح مصر، علناً أو بشكل رسمي، طوال خمس سنوات من التحقيقات والمفاوضات والطلبات القضائية، سيناريو المؤامرة الذي حاولت ترويجه، أول من أمس الأربعاء، في بيان النيابة العامة بمناسبة إغلاق التحقيقات في قضية قتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني. بل كان أقصى ما نُشر في هذا السياق تصريحات بعيدة عن الطبيعة الرسمية من بعض الشخصيات الموالية للنظام الحاكم في وسائل الإعلام المحلية والبرلمان، أو من قبل ضباط الشرطة والمخابرات السابقين المؤتمرين بأمر الأجهزة، وكذلك نقيب الباعة الجوالين محمد عبد الله، في معرض تفاخره بأنه من أبلغ الأمن الوطني وساعده على تتبّع ريجيني أثناء دراسته في القاهرة قبل أشهر معدودة من اختطافه وتعذيبه وقتله.
واختارت السلطات المصرية في الظرف الحالي الصعب الذي قد يضعها محل مساءلة أوروبية ودولية، لا إيطالية فقط، أن تجعل من سيناريو المؤامرة هذا، مع بعده عن الواقع العملي ووجود قرائن وأدلة على استحالة تحققه، رأس الحربة في ردها القانوني الاستباقي على المخاطبات الإيطالية الرسمية المنتظرة لتسليم الضباط الأربعة في الأمن الوطني المشتبه بضلوعهم في تعقب واختطاف ريجيني، بعد أن تبدأ محاكمتهم الغيابية رسمياً.

تسعى مصر إلى التشكيك في مصداقية تحقيقات نيابة روما

وقالت مصادر قضائية مصرية متابعة لملف ريجيني منذ بدايته، لـ"العربي الجديد"، إنّ إغلاق القضية بنسب الفاعل إلى مجهول، لم يكن كافياً من وجهة النظر القانونية المحتاطة من التحركات القضائية الإيطالية المقبلة، بعد انتهاء فترة فحص قضاة تحريك الدعوى للقضية ضدّ الضباط الأربعة، نظراً لأن تحريك الدعوى سيقتضي تقديم طلبات تسليم للسفارة المصرية في روما أو وزارة العدل المصرية، مع فتح باب تقديم مذكرات للدفاع أو الرد من الأربعة خلال فترة عشرين يوماً انتهت أمس الخميس. وبالتالي، فإنّ اللجنة التنسيقية بين النيابة العامة ووزارة العدل والمخابرات العامة والأمن الوطني وهيئة قضايا الدولة ووزارة الخارجية، اتخذت قراراً بوجوب الإشارة إلى سابقة تحقيق النيابة المصرية في فرضية ضلوع المتهمين الأربعة في الواقعة وإعلان ذلك رسمياً على الصعيد المحلي للمرة الأولى، ليصبح إغلاق التحقيقات بمثابة خطوة حمائية للضباط من التحرك الإيطالي المتوقع.

وأضافت المصادر أنّ مصاحبة هذه المسألة بالترويج لفرضية المؤامرة ونشر عبارات توحي بممارسة ريجيني دوراً تخريبياً أو تجسسياً أو تحريضياً لقلب نظام الحكم، هو أمر لا يُقصد به الدعاية المحلية فقط، بل أيضاً نشر مثل تلك الفرضيات في الإعلام والأوساط السياسية الإيطالية، بهدف زعزعة موقف بعض الدوائر التي لا تتخذ من مصر موقفاً مبدئياً في هذه القضية، ودعم الدوائر اليمينية التي تدفع منذ سنوات في اتجاه إقامة علاقات طبيعية مع مصر طالما استمر التعاون الاستراتيجي والعسكري والاقتصادي، وعدم تضخيم آثار مقتل ريجيني على العلاقة الثنائية بين البلدين.

وفي السياق نفسه، قال مصدر دبلوماسي مصري لـ"العربي الجديد"، إنّ القاهرة لا تهدف من الترويج لسيناريو المؤامرة والإيحاء بممارسة ريجيني نشاطات غير دراسية إلى الدفاع القانوني، بل تهدف بالأساس إلى كسب الوقت بتفجير خلافات جديدة داخل الحكومة والبرلمان الإيطاليين والتشكيك في مصداقية التحقيقات التي أجرتها نيابة الجمهورية في روما، وأن يتكامل هذا المسار مع المسار الآخر النشط على صعيد التعاون الاقتصادي والعسكري، لإهدار فرصة الأحزاب والقوى اليسارية لاتخاذ قرارات صعبة بشأن مصر، كفرض عقوبات اقتصادية أو وقف صفقات التسليح.

وأضاف المصدر أنّ الموقف المصري قائم على استغلال عدم قدرة نيابة روما على الربط المباشر بين الضباط الأربعة المشتبه بهم وحادث القتل والتخلص من الجثة، والتشكيك في منهج الاستقراء الذي اتّبعته روما في الربط بين ما حدث قبل قتل ريجيني وبين الحادث ذاته. ولم تستطع نيابة روما بسبب ضعف المعلومات وحجب شهادات عديدة طلبتها، إثبات العلاقة المباشرة بين المشتبه فيهم وجريمة القتل، على الرغم من وجود شهادات مختلفة لوجود ريجيني بعد يوم 25 يناير/كانون الثاني 2016 في أحد مقار الأمن الوطني. فضلاً عن شهادة الضابط الأفريقي الذي أبلغ بأنه سمع حديثاً من أحد المشتبه فيهم أثناء تدريب للضباط الأفارقة في كينيا عام 2017، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه.

وتتماهى الرواية التي أشارت إليها النيابة المصرية، أول من أمس، مع معلومات مفبركة حاول جهازا الأمن الوطني والمخابرات العامة ترويجها في الأيام الأولى بعد مقتل ريجيني في وسائل الإعلام المحلية والعربية، ونُقلت على لسان مصادر مجهولة آنذاك، ولها شقان رئيسيان؛ أولهما أن ريجيني كانت له أنشطة غير مألوفة وتشكك في ولائه لجهاز استخباراتي أجنبي، أخذاً بعدة قرائن ضعيفة منها سفره إلى دول يعدها الأمن المصري "خطرة" مثل تركيا وإسرائيل، وحديثه مع مصادره عن الأوضاع السياسية بمصر في أعقاب ثورة 2011. أما الشق الثاني من الرواية، فهو أنّ هناك طرفاً ثالثاً يمكن اعتباره استخبارات معادية أو جماعات داخلية معارضة بادرت إلى اختطافه وقتله لإلصاق التهمة بالأمن المصري.

تتناقض الرواية التي تشيطن ريجيني مع تحقيقات مصرية أخرى

وتتناقض الرواية التي تشيطن ريجيني وتحمّله مسؤولية ما حصل، مع نتيجة أخرى كانت زعمت النيابة المصرية سابقاً في بيانات رسمية عدة أنها توصلت لها من التحقيقات، وهي أنّ الأمن المصري فَقَد اهتمامه بريجيني بعدما تأكد من عدم انتمائه لأي جهاز استخباراتي وذلك قبل خطفه الأخير بأسابيع عدة.
وبحسب المصادر القضائية والدبلوماسية، فقد أغلقت إيطاليا المجال أمام محاولات النيابة المصرية بين عامي 2017 و2019 إبان التحقيقات المشتركة، لنسج خيوط سردية مفتعلة تؤدي إلى إحكام فرضيتي المؤامرة والجاسوسية. وكانت تمثلت تلك المحاولات في إلقاء الضوء على دخول ريجيني مصر بطريقة غير شرعية وإقامته بتأشيرة سياحية، وتواصله مع شخصيات أكاديمية بالداخل والخارج معروفة بمواقفها المعارضة للنظام المصري.
وتتعدد الاتهامات الموجهة للضباط الأربعة المشتبه بهم، وهي تشمل تشكيل مجموعة لخطف الأشخاص، والمشاركة في التعذيب، والمشاركة في إيقاع إصابات خطيرة بجسد ريجيني بواسطة السوائل الساخنة والأسلحة الحادة والضرب متعدد الصور، والتواطؤ على قتله.

وكان تراجع الادعاء الإيطالي عن تحريك الدعوى ضدّ مشتبه به خامس هو أمين الشرطة محمود نجم، بسبب نقص في الأدلة حسبما قدر قضاة الاتهام. والضباط الأربعة هم اللواء طارق صابر، والعقيد آسر كمال، والعقيد هشام حلمي، والمقدم مجدي عبد العال شريف. وبحسب القانون الإيطالي يمكنهم جميعاً مخاطبة الادعاء العام لنفي الوقائع، كما يمكنهم المطالبة بالمثول أمام الادعاء للإدلاء بأقوالهم.

وكان اللواء طارق صابر خلال الواقعة، مدير قطاع في جهاز الأمن الوطني، ويشغل منصب أكبر حالياً، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناءً على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة الجائلين، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر. أما الضابط الثاني، وهو العقيد آسر كمال، والذي كان يعمل رئيساً لمباحث المرافق في العاصمة، فتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام. أما المقدم مجدي شريف فهو الذي أبلغ عنه الضابط الأفريقي. وتتجه التحقيقات الإيطالية إلى أنّ الضابط شريف شارك ثلاثة ضباط آخرين، غير الخمسة المشتبه بهم، أو خلفهم في إدارة ملف ريجيني، وأنهم جميعاً قاموا بتكوين شبكة من المخبرين حول الأخير والتي تضم، حسب السيناريو الإيطالي، كلا من زميلة ريجيني المقربة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد ونقيب الباعة الجائلين.

المساهمون