فيتنام ـ أميركا: شراكة استراتيجية للضغط على الصين

11 سبتمبر 2023
بايدن في هانوي، أمس (نهاك نغوين/فرانس برس)
+ الخط -

عكست الزيارة التي بدأها الرئيس الأميركي جو بايدن، أمس الأحد، إلى هانوي، نوايا الولايات المتحدة في ترسيخ علاقاتها مع فيتنام، جارة الصين، وذلك بعد 50 عاماً على انسحاب الأميركيين من هانوي، في عام 1973. ومع أن العلاقة بين البلدين شهدت تطبيعاً في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، بعد زوال اصطفاف فيتنام إلى جانب الاتحاد السوفييتي بفعل تفكك الأخير، إلا أنها شهدت تطوراً متسارعاً في السنوات الأخيرة.

ففي عام 2017، زار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فيتنام، قبل أن يزورها مرة أخرى في عام 2019، على وقع توقيع شركة "بوينغ" عقودا مع شركتي "فيت جيت" و"بامبو" الفيتناميتين، لبيع 20 طائرة لهما، بقيمة تتجاوز الـ12 مليار دولار.

مسار مستقبلي بين فيتنام وأميركا

وفي مقارنة بين المرحلة الحالية، التي حطّ فيها بايدن رحاله في هانوي أمس الأحد، وبين سقوط سايغون في 30 إبريل/نيسان 1975 بيد "الفييتكونغ" (المقاومة الفيتنامية ضد الأميركيين) وما رافقها من فوضى جراء عمليات هروب عشوائية للفيتناميين وما تبقى من الأميركيين، يظهر أن البلدين اتخذا خطوات لتغيير مسار علاقتهما في المستقبل، للحاجات المتبادلة بينهما.

وقال الرئيس الأميركي في بداية اجتماعه مع زعيم الحزب الشيوعي الحاكم نغوين فو ترونغ، أمس، إن "فيتنام والولايات المتحدة شريكان أساسيان" في مرحلة "مهمة للغاية" بالنسبة للعالم. في المقابل، رحب المسؤول الفيتنامي بضيفه، متمنيا أن تكون الزيارة "ناجحة". وأشاد بصحة الرئيس الأميركي البالغ 80 عاماً قائلاً إنه "لم يتقدم في السنّ يوماً واحداً، بل يبدو أفضل من أي وقت مضى"، في تعليق أثار ضحك بايدن.

تحرص فيتنام على عدم الانحياز إلى أميركا أو الصين
 

وبتوقيع اتفاق "الشراكة الاستراتيجية الواسعة" تكون فيتنام رفعت الولايات المتحدة إلى مرتبة "الشريك الاستراتيجي الشامل"، مثلما هو الحال مع الصين وروسيا والهند وكوريا الجنوبية.

ويشير منح الولايات المتحدة نفس الوضع كما الصين وروسيا إلى أن فيتنام تريد حماية صداقاتها، في حين تبحث الشركات الأميركية والأوروبية عن بدائل للمصانع الصينية.

وقال بايدن الشهر الماضي إن فيتنام لا تريد تحالفاً دفاعياً مع الولايات المتحدة "لكنها تريد علاقات لأنها ترغب في أن تعرف الصين أنها ليست وحيدة"، وأنه يمكنها اختيار علاقاتها الخاصة. وعن زيارة فيتنام، قال بايدن "نجد أنفسنا في وضع تحدث فيه كل هذه التغييرات حول العالم... لدينا فرصة، إذا كنا أذكياء، لتغيير الديناميكية".

مع التباطؤ الاقتصادي في الصين وتوطيد الرئيس الصيني شي جين بينغ سلطته السياسية، يرى بايدن فرصة لجلب المزيد من الدول، بما فيها فيتنام وكمبوديا، إلى فلك الولايات المتحدة.

كما أن التجارة الأميركية مع فيتنام تضاعفت إلى 127 مليار دولار سنوياً منذ عام 2019، غير أن هانوي تبقى في حاجة إلى إدخال تحسينات على البنية التحتية للبلاد ومهارات عمالها وحوكمتها.

كما أن التجارة المتزايدة لم تضع الاقتصاد الفيتنامي تلقائياً على مسار تصاعدي. ووفقاً لموقع "ذا ديبلومايت"، فإن فيتنام كانت من بين أفقر دول آسيا حتى عام 1990، ومنذ ذلك الحين سجلت نمواً اقتصادياً سريعاً، ومن المتوقع أن يكون اقتصادها من بين أسرع الاقتصاديات نمواً في العالم حتى عام 2050. وتتمحور مجالات تعاونها مع الأميركيين في الطاقة البديلة وأشباه الموصلات.

لكن في الوقت الذي تبحث فيه الولايات المتحدة عن بدائل للمصانع الصينية، تحرص فيتنام على عدم الانحياز إلى واشنطن أو بكين، لكنها تشارك الأميركيين مخاوفها بشأن مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي، مما يشكل مصدراً شبه دائم للتوتر في المنطقة.

وترفض هانوي ادعاءات الحكومة الصينية بالسيادة على مساحات شاسعة من بحر الصين الجنوبي، خصوصا أن بكين انتهكت المنطقة الاقتصادية الخالصة لهانوي مرات عدة.

كما أنه في عام 2014 نشرت الصين منصة نفط عملاقة قبالة ساحل فيتنام، مما دفع هانوي إلى بذل الجهود لتنويع وتعميق علاقاتها مع دول أخرى، وضمنها اليابان، مع إجراء حوار ثنائي بين البلدين لرفع علاقتهما إلى مستوى "الشراكة الاستراتيجية الواسعة".

غير أن "معهد الولايات المتحدة للسلام" ذكر في تقرير أن الاتفاق الأميركي ـ الفيتنامي، لا يعني انحياز هانوي إلى واشنطن. وتعمل فيتنام على قاعدة أن موقعها الجيوبوليتيكي في بحر الصين الجنوبي، وتاريخها كمنطقة صراع بين معسكري الحرب الباردة، الغربي والشرقي، في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم نموّها الاقتصادي، يسمح لها باستنباط حلول اقتصادية مستقبلية، وبناء شراكات واسعة حول العالم. ومن شأن الانخراط الفيتنامي أكثر في الأسواق العالمية، أن يجعل هانوي قوة مؤثرة في الإقليم.

في المقابل، استفادت الولايات المتحدة من العلاقات المضطربة بين فيتنام والصين، وإن لم تصل إلى درجة القطيعة بينهما، لتمتين مواقعها في جنوب شرقي آسيا ومحيط بحر الصين الجنوبي.

والتمدد الأميركي السياسي والاقتصادي والعسكري، بين كوريا الجنوبية واليابان وجزر غوام وماريانا الشمالية، ثم الفيليبين وفيتنام، يسمح لواشنطن بتمتين وجودها في هذه المنطقة، وتكريس سياسة "الغموض الاستراتيجي" المتبعة مع تايوان.

ويمنح هذا التمدد ورقة إضافية لبايدن، الذي جعل من مواجهة الصين اقتصادياً عنواناً أساسياً لحملته الانتخابية لرئاسيات 2020، ثم في عهده الحالي. وأظهر بايدن اهتمامه بفيتنام، في استمرارية لحقبة باشرها قدامى المحاربين الأميركيين ونشطاء السلام والأميركيين ـ الفيتناميين، الذين بدأوا بتشبيك العلاقات مع هانوي في ثمانينيات القرن الماضي.

وأبدى هؤلاء دهشتهم من "الاستقبال الحارّ" الذي كانوا يحظون به في كل مرة يسافرون إلى فيتنام، في مؤشر إلى أن الحرب الأميركية ـ الفيتنامية، بين عامي 1961 و1973، بدأت تطوي صفحتها.

بتوقيع اتفاق "الشراكة الاستراتيجية الواسعة" تكون فيتنام رفعت الولايات المتحدة إلى مرتبة "الشريك الاستراتيجي الشامل"

 

غير أن لذلك سبباً أساسياً، ففي المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الحاكم في عام 1991، قررت فيتنام أن تصبح "صديقة لجميع أطراف المجتمع الدولي التي تكافح من أجل السلام والاستقلال والتنمية". لكن ذلك لم ينهِ ملفات عالقة، مرتبطة بالآثار التدميرية لقنابل النابالم الأميركية في فيتنام، والتي قررت واشنطن التعاون فيها مع هانوي، لمعالجة الجرحى وإعادة تأهيل الأراضي.

تنظيف آثار "العامل البرتقالي"

كما أنه في عام 2012، بدأ الأميركيون والفيتناميون عمليات تنظيف آثار "العامل البرتقالي"، وهو مركّب كيميائي يضمّ مادة الديوكسين، رشت القوات الأميركية 80 مليون ليتر منه على أدغال جنوبي فيتنام خلال الحرب لتدمير الغابات والزراعات التي استخدمتها قوات "الفييتكونغ".

وأدت عملية الرش إلى انتشار "العامل البرتقالي" في المياه الجوفية والأنهار، وحدوث إعاقات عقلية وجسدية حادة بين أجيال من الفيتناميين الذين يولد بعضهم برؤوس متضخمة أو أطراف مشوهة. وفي "بين هوا" تسبب أكثر من 500 ألف متر مكعب من مادة الديوكسين في تلويث التربة مما جعل منها "أكبر منطقة ملوثة متبقية" في فيتنام، بحسب بيان للوكالة الأميركية للتنمية الدولية في عام 2019.

واعتبرت هانوي أن نحو ثلاثة ملايين فيتنامي تعرّضوا لـ"العامل البرتقالي"، وأن مليون شخص يعانون من تأثيرات خطيرة على الصحة، من بينهم 150 ألف طفل على الأقل يعانون من عيوب خلقية. ولم تفلح محاولات الضحايا الفيتناميين في الحصول على تعويضات من الحكومة الأميركية. ورفضت المحكمة الأميركية العليا في 2009 قبول القضية، كما لم تعترف الحكومة الأميركية أو الجهة المصنعة لهذه المادة الكيميائية بمسؤوليتها.

مع ذلك، يبدو بايدن مصمماً على تثبيت مسار مستقبلي إيجابي مع فيتنام من دون التخلي عن الماضي الأميركي في هانوي، فمنذ أيام منح "وسام الشرف الرفيع"، وهو أعلى وسام عسكري في الولايات المتحدة، للطيار المتقاعد لاري تايلور، لاشتباكه بطائرته المروحية من طراز "كوبرا" في معركة بالأسلحة النارية لإنقاذ أربعة جنود أميركيين من موت محقق في عام 1968 في فيتنام.

وفي ذلك الحين طلبت القيادة من تايلور الانسحاب من المعركة والعودة إلى قاعدته، لكنه رفض وقرر الاشتباك لإنقاذ الجنود الأميركيين. وقال بايدن خلال تسليم الوسام الثلاثاء الماضي: "لقد رفض الاستسلام. ورفض ترك مواطن أميركي وراءه".

(العربي الجديد، أسوشييتد برس، فرانس برس، رويترز)