فرنسا تخسر أفريقيا لمصلحة روسيا والصين

14 مارس 2023
ماليون يستقبلون جنوداً فرنسيين شمال مالي، 2013 (باسكال غويو/فرانس برس)
+ الخط -

فرنسا تتراجع في أفريقيا على نحو دراماتيكي تجاوز حسابات باريس. إنها تخسر الأرض التي وقفت عليها بقوة لزمن طويل يقارب قرنين. وأهم مؤشر على ذلك، هو أن الميزان التجاري هبط تدريجياً إلى النصف خلال نحو عقدين. بدأت الخسارة بالاقتصاد، وها هي تتجاوزه اليوم إلى إنهاء علاقات تاريخية قامت على الأمن، الذي كانت تقدمه فرنسا مباشرة لعدد من بلدان أفريقيا من خلال توفير الحماية الداخلية للأنظمة الحاكمة من خلال الأجهزة، ونشر القواعد العسكرية التي تتولى الحماية الخارجية.

فرنسا لم تتغير في أفريقيا

بدأ الجيل الجديد من القادة الأفارقة التعبير عن تذمرهم من سياسات فرنسا، التي لم تتغير، في رأيهم، منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، ولا تزال تتعامل مع البلدان الأفريقية كمستعمرات تؤمن المواد الأولية واليد العاملة، مقابل الحماية والمساعدات الاقتصادية.

وتبين أن قادة أفريقيا الجدد يعملون على إنهاء الهيمنة التي بدأت باتحاد غرب أفريقيا الذي أنشأه الفرنسيون في عام 1895، ويضم ثماني دول هي السنغال، موريتانيا، مالي، النيجر، بوركينا فاسو، ساحل العاج، بنين، وغينيا. وكانت تعد في ذلك الوقت مستعمرة عملاقة.
وبعد أن نالت هذه الدول استقلالها في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تم استبدال "الفيدرالية" بصيغة أخرى تعرف باسم "فرانكأفريك". وكان ذلك شكلاً من أشكال الرقابة الأبوية أحياناً وأحياناً شديدة القوة في هذه البلدان، بدعم من القوات الفرنسية المتمركزة في العديد منها.

تحرّر الاقتصاد الأفريقي من التبعية لفرنسا، وما كان لذلك أن يتم لولا دخول منافسين جدد إلى القارة

وبهذه الطريقة، ظلّ القادة المدعومون من فرنسا في السلطة، غالباً لسنوات، كما أن الاتفاقيات الحكومية الثنائية مع فرنسا، والتي غالباً ما تكون سرّية، أعطت الشركات الفرنسية الأولوية لاستغلال الموارد الطبيعية لتلك البلدان.

وتوثقت عرى الترابط الاقتصادي إلى حد أن فرنسا أنشأت عملة غرب أفريقيا، الفرنك الأفريقي (الجماعة المالية للفرنك الأفريقي)، بدعم من البنك المركزي الفرنسي. وكان على كل دولة الاحتفاظ بنصف احتياطاتها من العملات في البنك الفرنسي.

وبقي هذا الترابط المالي حتى وقت قريب، وصوّت البرلمان الفرنسي على إنهاء العمل به العام الماضي فقط، وقد سمح ذلك بتحرير الاقتصاد الأفريقي من التبعية لفرنسا، وما كان لذلك أن يتم لولا دخول منافسين جدد إلى القارة.

في المقابل، لم تصمد فرنسا سياسياً وعسكرياً، وبدأت تحصد فشل سياساتها ومثال ذلك عملية "برخان"، التي بدأت عام 2013 بالهجوم العسكري ضد الإسلاميين في أفريقيا جنوب الصحراء. وبدلاً من استعادة هيبة فرنسا ونفوذها، تراكمت الخسائر البشرية والعسكرية.
بدأ الفرنسيون حرب عصابات في الصحراء لطرد المتطرفين الإسلاميين الذين استولوا على مدينة تمبكتو في وسط مالي. كان هذا الهجوم ناجحاً، لكن منذ ذلك الحين، استمرت حرب العصابات، وازداد عدد الجهاديين وتضاعف عدد المدنيين الذين قتلوا.

وكان هناك أكثر من 6 آلاف قتيل بين المدنيين في عام 2020، بزيادة قدرها 30 في المائة عن العام الذي سبقه، وفقًا لـ"موقع الصراع المسلح وبيانات الأحداث". وخسر الفرنسيون 55 جندياً، كما خسرت جيوش مالي والنيجر وبوركينا فاسو آلافاً في ثماني سنوات.

وبدلاً من أن يقود التدخل العسكري الفرنسي إلى تعزيز المؤسسات الديمقراطية، تُوجت العملية بانقلابين عسكريين في مالي، وظهرت أصابع روسيا واضحة في ذلك، ليس من خلال الدور المتنامي لمرتزقة "فاغنر" فقط، بل بسبب الطريقة التي تصرف بها الانقلابيون تجاه الحضور الفرنسي والعلاقات التاريخية مع فرنسا. وبغض النظر عن دور "فاغنر"، فإن فرنسا قد تعرضت لهزيمة عسكرية في منطقة الساحل، ما يؤكد فشل رهانها على خوض حرب ناجحة في هذه المنطقة.

وفي رأي العديد من الخبراء الفرنسيين، فإن هذه النتيجة يجب أن يُنظر إليها في ضوء القرار الأميركي في أفغانستان. فلو لم يبدأ الأميركيون محادثات مع حركة "طالبان" ثم أعلنوا انسحابهم، لما كانت الحكومة الفرنسية قد اتخذت القرار الذي اتخذته بالانسحاب من مالي (أعلنت انسحاب آخر جنودها في أغسطس/آب الماضي).

والنتيجة هي فشل السياسة الأمنية الفرنسية، التي يحركها الجيش في منطقة الساحل في تطوير طرق فعّالة لنزع فتيل التطرف، أو التكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية في المنطقة.

الخسارة الفرنسية في أفريقيا ليست محدودة، بل كبيرة، خصوصاً على المستوى الاقتصادي. ويقدر خبراء فرنسيون أن فرنسا الذي كانت قبل عام 2000 المصدر والمستورد الأول بالنسبة لأفريقيا لم تعد كذلك، وخسرت حوالي 50 في المائة بالاتجاهين.

ومنذ ثلاثة أعوام، تواصل فرنسا انسحابات، على نحو مهين، من قواعد رئيسية في أفريقيا، كما حصل في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، وهي دول أساسية تربطها مع باريس علاقات مديدة، واتفاقات تتعلق بأمن القارة ومستقبلها على هذا الصعيد.

وتحتل مكان القوات الفرنسية قوات مرتزقة "فاغنر" الروسية، التي باتت تمتلك قواعد عدة في القارة، وخصوصاً في ليبيا التي منها صارت تنطلق نحو بقية بلدان أفريقيا، وهي قواعد بنتها موسكو خلال فترة العلاقات بين ليبيا والاتحاد السوفييتي، ضمن فلسفة تمدد ليبيا في أفريقيا التي كان يتبناها العقيد الراحل معمر القذافي.

يتمركز مرتزقة "فاغنر" في قواعد رئيسية عدة، وهي الجفرة وبراك الشاطئ (وسط) والقرضابية قبالة سرت وطبرق وبنغازي في الشرق، وهي مجهزة لاستقبال أعداد كبيرة من الجنود ومختلف أنواع الأسلحة وخاصة الطيران الحربي.

سلاح المال يخذل فرنسا

هناك أمران منفصلان، هما فشل فرنسا في أفريقيا، ونجاح روسيا والصين في ملء الفراغ الأمني والاقتصادي الذي تتركه بانسحابها. الأول هو وصول سياسة فرنسا في أفريقيا إلى الفشل بسبب عوامل ذاتية، والثاني هو استغلال روسيا والصين هذا الوضع من أجل التمدد في بعض دول القارة المهمة اقتصادياً، ومن جهة الموقع الجغرافي.

عوّضت الصين وروسيا الحماية الأمنية والتمويل للدول الأفريقية

لقد حصل تزامن بين الأمرين، ومن دون شك فإن البلدان الأفريقية، ما كانت لتتجرأ على التمرد ضد فرنسا، لولا أنها لم تمتلك البديلين الروسي والصيني، وهذا ما عوّضها عن أمرين مهمين: الحماية الأمنية والتمويل، الذي فتح الطريق أمام النفوذ الصيني الذي دخل على خط التنافس في القارة، وتمدد بسبب سياسة القروض والمشاريع الاقتصادية، التي أصبحت كلفتها تتجاوز ربع الناتج الخام المحلي لبلدان أفريقيا.

والنتيجة هي أن الصين، اعتباراً من عام 2019، بات لديها ما مجموعه 165 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة في أفريقيا، وفقاً لدراسة أجرتها كلية لندن للاقتصاد. وفي السنوات الخمس التي سبقت أزمة كوفيد – 19، استثمرت الصين ما يقرب من ضعف ما فعلته الولايات المتحدة وفرنسا في أفريقيا.

في "اللعبة الكبرى" الجديدة في أفريقيا، أقوى سلاح هو المال. وتسعى العديد من البلدان الأفريقية إلى تحرير نفسها من الوصاية الاقتصادية لفرنسا، وتنويع شركائها التجاريين، وعلى عكس المقرضين الغربيين، لا يثير الصينيون أسئلة حول الحكم الرشيد والحريات، ولا حتى كيف سيتم إنفاق الأموال، ولا يتدخلون في الشأن السياسي المحلي.

ومهما يكن من أمر، لا تزال فرنسا لاعباً مهماً في أفريقيا، لكن من الواضح أنه يجب عليها مراجعة سياستها الخارجية إذا كانت تريد الحفاظ على نفوذها في القارة. ويرى خبراء فرنسيون أنه حان الوقت لوضع استراتيجية أكثر استدامة تحترم مصالح البلدان الأفريقية بشكل أكبر، لضمان تعاون متبادل المنفعة.

ويمكن لفرنسا أن تؤدي ورقتين رابحتين: إعادة توزيع الثروة، والمساءلة. هاتان القضيتان مهمتان في علاقات فرنسا مع أفريقيا، وأولويتان يمكن أن تشكلا نقطتي انطلاق مفيدة، في الوقت الذي يحول تعاون بعض دول أفريقيا مع الصين وروسيا دون تطلعات المواطنين الأفارقة إلى الديمقراطية وسيادة القانون.

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جولته الأفريقية الأخيرة منذ أسابيع: "منذ 20 عاماً، تمّ دفعنا، ربما لأننا غلبنا النعاس بينما كانت الصين، أو الهند، أو روسيا أو تركيا أو ألمانيا، تقود الهجوم وكانت تستحوذ على جزء كبير من حصة السوق". ومثال ذلك الكاميرون، التي يبلغ عدد الشركات الفرنسية فيها حوالي 200، تمثل الآن حوالي 10 في المائة فقط من اقتصاد البلد مقارنة بـ40 في المائة في التسعينيات.

سعى ماكرون خلال ولايته الرئاسية الأولى إلى الترويج لرؤية الدبلوماسية الفرنسية مع أفريقيا من خلال المزيد من المساعدات الخارجية، وتعزيز العلاقات بين الشعوب القائمة على روح الشراكة بين أنداد.

ومع بدء فترة ولايته الثانية العام الماضي، اقتنع ماكرون بأنه حان الوقت لإعادة تصور التواصل الدبلوماسي الفرنسي مع البلدان الأفريقية. وبينما أظهر رغبة واضحة في تصحيح أخطاء الماضي، فإن جوانب أخرى من طموحاته السياسية لا تزال غارقة في مناهج التعاملات التي عفا عليها الزمن.

وكشفت زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة إلى عدد من بلدان القارة عن أسباب الفشل، ومن بينها استمرار الدوائر الفرنسية العمل بالسياسات البيروقراطية القديمة تجاه أفريقيا، بالإضافة إلى عدم قيام ماكرون نفسه بإجراء مراجعة للخطاب السياسي الفرنسي الرسمي، تجاه المستعمرات السابقة في أفريقيا، والذي لا يزال مطبوعاً بمسحة قومية عميقة ذات طابع عنصري.

تقارير دولية
التحديثات الحية